رهبة مستكينة
عفاف البعداني
الأماكن تتشح بالصفار، والربيع قص شعره منذ وقت طويل. النجوم تذوب غائرة وتحتها البئر تحترق، بينما رماد يسافر كهيكل طائر. والآخرون يهرعون بلا وجهة، وهنا بقربي قطط شاردة، وديك يعلّق رأسه في عنقه، بينما ينشط نمل غريب داخل كعكة فاسدة. البيوت كثيرة تتنهد بصمت، والخرفان بجوارها تحس بالإغماء.
إننا دائماً نتلاشى في المساء، نخاف من أن نُعرف، ولا نريد أي شيء ولا شيء يطلبنا في هذا الوقت. الحسرة تصدح برعاءها الأخير، وأنا فقط واقفة أعاين الأفق سهلاً وليناً أمام ضيق نفسي، تائهة فيني فوضى السؤال. أصادف توسلات كثيرة لكنها ليست لأجلي. آنسنة الحرب تضج فيني وقلبي يقاتل لكسب الخسائر فقط. خطواتي لا تخطئ عندما ترجع بلا عودة، إنه أدب غامض يرتب كل هذا الانصهار لكي لا أهون أمام أي أحد.
وهذا اليوم هو نفسه من كل يوم، لكن اليقين يشب معي هذه اللحظة، أفرش سجادة التأمل نحو قبلة روحي كراهب استكان ، أحرص على إخفاء أي من خصلات قلبي وكدمات الأمس. أصوب نظري للأفق مدركاً أن البعد مؤذٍ جداً. سواعد من الرهبة والإقامة تمسك بي وتهفو لأسمو، وأنا تحت هذا السقف الملطخ بكل شيء ولا زلت بقرب نافذة وحيدة.
أتعلمون! كان الحق مع الدراويش حينما حزموا حقائب أيامهم مبكراً وسافروا فقط إلى الله، تاركين المنازل خلفهم. أجزم أن لا شيء يستطيع أن يحمي قلبي من القلق سوى هذه النافذة التي تهرب من الأرض وتزحف نحو السماء. يا لهذه الوحدة، لا يمكن مراوغتها أبداً. أفكر كثيراً ولا زلت أغفر كثيراً وأحتمل ألمي، وأستريح لهدوء الخلق المنبعث من المساجد. قلوبهم ترتجف، وأصواتهم ترتفع، وتضمها أجنحة الملائكة بكل حب، وأنا أضم نفسي ليمتلئ صدري بالسلام متخيّرةً أن أضيع بين الوجوه.
أعجز عن وصف ما بداخلي وأبكي حتى أنام بنصف عين. وهنا يتعرف المرء على ملامح قلبه ويجد جواباً شافياً ليقين الجدات، وهن يحفظن فقط المعوذات، وتعلق المفتاح بصدرها ناجية من كل هذا الفقد. مئات الحظات فيها مصابيحنا تكون مضاءة أكثر منا. قوة نكبحها لمزيد من البقاء، وما زلنا بجوارها ننتظر الموت.
إنني معلقة دائماً بين أن أسقط أو أبقى. لا أحتاج سيادة تامة، وإنما أحب البحث عن عمق الشيء ولو كنت على حافة الهاوية. يصفني البعض معقدة، لكنني بكامل انتباهي أرى الليل سماوياً وكأنه البحر. لكن الحق يقال: إن الليل في هذه اللحظة هو السماء ويشبه البحر. إنه منطلق يُنصفه الإنسان البارع والمخترق وربما العنيد، الإنسان الذي وُلِد في كل منا، وعافته العادات والقوانين، ولكنه لا زال فيني ينصف المشاعر والأشياء على أنها أشياء ثمينة ومطلقة، ولا يمكن الحكم عليها أو السخرية منها مهما بدت صغيرة. إنني من الأشخاص المتعبة والتائهة، ولا أملك رصيداً فائضاً من الأعمال الصالحة، لكني لا أحب إيذاء أحد، وأحب محاولاتي للنجاة كل يوم وآنس بهذه الاستكانة. أحب الذين يبحثون عن الله في كل تصرف وموقف، ولا يقتصر إيمانهم في جدران المساجد وحدها.
زر الذهاب إلى الأعلى