السيادة المفقودة: كوكتيل المقبوليات وكذبة المليارات الضائعة
بقلم/ عدنان صگر الخليفه
إنَّ المشهد السياسي العراقي، الذي يتسم بالتناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي والواقع المعاش، يضعنا أمام تساؤل جوهري حول طبيعة السيادة الوطنية وقيمة الإرادة الشعبية. فبينما يتغنى السياسيون والإعلاميون بشعارات “الاختيار الحر” و”القرار الوطني المستقل”، تتداول الأخبار في الداخل والخارج عن ضرورة حصول هذا السياسي أو ذاك الفصيل الفائز في الانتخابات على “المقبولية” الأمريكية، أو الإيرانية، أو الإقليمية. هذا “الكوكتيل الإخباري” لا يمثل إلا اعترافًا ضمنيًا من جميع الأطراف بأن القرار السيادي الحقيقي للبلاد مرهون بتوافقات غرف مغلقة تتجاوز صناديق الاقتراع، وتثبت بالتالي أن الشعب يُدعى للمشاركة في عملية انتخابية هدفها الأساسي هو شرعنة نظام مُختار مسبقًا وليس اختيار قيادته.
وتتعمق هذه الكذبة عندما نرى أن الانتخابات ليست سوى آلية إجرائية لتحديد “وزن الكتلة” في طاولة المفاوضات، وليس لتحديد من سيحكم. فها هم الفائزون أنفسهم لا يعلمون بيقين من سيتولى المناصب العليا في رئاسة الجمهورية أو البرلمان أو مجلس الوزراء؛ إذ يذهب الجميع للتفاوض وإرضاء الأطراف الداخلية والخارجية لضمان حصصهم. تتحول الدولة في هذا النظام إلى “سوق للمقايضة”، حيث تُباع وتُشترى الوزارات ومواقع الدرجات الخاصة التي يتجاوز عددها خمسة آلاف منصب حساس، لضمان استمرارية المحاصصة وتوزيع النفوذ بدلاً من إرساء حكم الكفاءة. هذا النظام، القائم على التراضي والمساواة في تقاسم الغنائم، يضع مقدرات العراقيين ومستقبل أبنائهم بالكامل في أيدي من يبيعون ويشترون بالدولة، وينزع أي حق للمواطن في المحاسبة، لأن الجميع شركاء في الصفقة.
ويأتي الدليل الأكبر على هذا الفساد الممنهج وتضحية السيادة لأجل مصالح النخبة في ملف الأموال الطائلة التي هُدرت. ففي السنوات الأخيرة، شهدت خزينة الدولة تدفقات مالية ضخمة، بلغت فيها الفوائض النقدية نحو 115 مليار دولار، خُصص منها 26 مليار دولار تحت مسمى قانون الأمن الغذائي، فضلاً عن ثلاث موازنات متتالية تجاوزت قيمتها الإجمالية 450 مليار دولار. إن هذا المبلغ الهائل، الذي لو أُنفق في أي دولة أخرى ذات حكومة حقيقية لتغيرت ملامحها بالكامل في الإعمار والصناعة والبنية التحتية، تبخر في العراق دون إنجاز يُذكر، باستثناء بعض المشاريع الترقيعية كـ “تبليط شارع أو إنشاء جسر” لا توازي كلفتها جزءًا يسيرًا من حجم الإنفاق. ومن المفارقة المؤلمة أن الحكومة تستمر في التبجح بـ “توفير رواتب الموظفين لهذا الشهر”، في محاولة يائسة لتخفيض سقف توقعات المواطن إلى حد الكفاف، بدلاً من محاسبتها على مصير مئات المليارات التي ضاعت في دهاليز الفساد والمحاصصة.
إن هذا الواقع المرير يضع المسؤولية ليس فقط على النخبة الحاكمة، بل يطال أيضاً المعارضة التي تتغنى بالتغيير، ثم تساهم في شرعنة هذا النظام وتُقاد إلى الجلوس على نفس الطاولة للمساومة على حصتها من المناصب، لتتحول من قوة تغيير حقيقية إلى شريك ثانوي في استدامة الأزمة. والأهم من ذلك، يجب على المواطن العراقي أن يراجع موقفه، فالاستمرار في إعطاء الشرعية لهذه النخبة التي أثبتت عدم اكتراثها بحقوقه ومقدراته هو استمرار في تمكينها من الإضرار بالبلاد. لقد آن الأوان لإنهاء هذه الكذبة الكبرى التي طالت عقدين من الزمن، فالنهاية المُرّة حتمًا ستطول كل من تبجح بالكذب على العراقيين باسم السيادة والانتخاب.
زر الذهاب إلى الأعلى