الرئيسيةالمقالات

بين الظن واليقين: مقاربة قرآنية نبوية وعقلية(2_4)

بين الظن واليقين:
مقاربة قرآنية نبوية وعقلية(2_4)

بقلم: د. رعدهادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي

🔗خصوصية المفردة القرآنية-46

☆من ظلمةالظن إلى نوراليقين
🔹المقدمة:
ثمة أنواعٌ لليقين وردت في القرآن الكريم، وهي ثلاث درجات مشهورة عند أهل العلم:

1. علم اليقين
2. عين اليقين
3. حق اليقين

وكل واحدة منها وردت في موضع من القرآن الكريم:

1️⃣ علم اليقين:
﷽ ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾
[التكاثر: 5-6]
_ المعنى:
“علم اليقين” هو العلم المؤكد الثابت الذي لا شك فيه، أي العلم الذي يحصل بالخبر الصادق أو البرهان.
2️⃣ عين اليقين:
﷽ ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾
[التكاثر: 7]
_ المعنى:
“عين اليقين” هو ما يُرى بالبصر بعد أن كان معلوماً بالخبر، أي رؤية الحقيقة عيانًا بعد العلم بها.
3️⃣ حق اليقين:
﷽ ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾
[الواقعة: 95]
_ المعنى:
“حق اليقين” هو بلوغ أقصى درجات التصديق والمعرفة، أي أن يعاين الإنسان الحقيقة و يذوقها بنفسه، فلا يبقى مجالٌ لأي شك.

🔹الفرق بين الأنواع الثلاثة:
⭕علم اليقين؛ العلم بالشيء عن طريق الخبر أو البرهان
☆المثال: أن يُخبرك أحد بأن هناك نارًا
⭕عين اليقين: أن ترى النار بعينك
☆المثال: أن تذهب وتراها أمامك وتنظر لهيبها بأم عينك.
⭕حق اليقين: أن تضع يدك فيها فتعرف حقيقتها بالتجربة
☆المثال: أن تحس بحرّها وتشعر بحرارتها بنفسك.
🔹”الظن”في القرآن الكريم ليس دائمًا بمعنى الشكّ أو الوهم، بل يأتي بعدة معانٍ بحسب السياق، وأحيانًا يُراد به اليقين التام، وأحيانًا الشكّ أو التوهم، وأحيانًا الترجيح الغالب.
ويمكننا أن نفصّل ذلك بتأنٍّ مع أمثلة من القرآن:
🔹أولًا: الظن بمعنى اليقين:أي العلم الجازم، وليس مجرد تخمين.
منه قول ٲلـلَّـﷻـۂ:
﷽ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 46]
_ المعنى:
أي يوقنون أنهم ملاقو ربهم، فـ”الظن” هنا بمعنى اليقين الثابت.
﷽﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: 20]
_ المعنى:
أي أيقنتُ أني ملاقٍ حسابي، ولهذا يفرح المؤمن برؤية النتيجة.
فالظن هنا هو يقين الإيمان بلقاء الله.
■ قال الزمخشري:
“الظن في مثل هذا الموضع يقين، لأن ظن المؤمن بلقاء الله لا يلابسه شكّ.”
🔹ثانيًا: الظن بمعنى الشك أو التوهم؛وهو الظن المتبادر في اللغة، أي الوهم أو التردد.
قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
﷽{إن بعض الظن إثم}[الحجرات:12]
﷽ ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾[الجاثية: 32]
_ المعنى:
أي لا نعتقد إلا اعتقادًا ظنيًا غير جازم، أي مجرد شكّ.فهو ظنّ مذموم لأنه لا يقوم على يقين.
🔹ثالثًا: الظن بمعنى الرجحان أو غلبة الظن
أي بين اليقين والشك، وهو الأكثر استعمالًا في الأحكام والمعاملات الشرعية.
قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
﷽ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا اللَّهِ﴾[البقرة: 249]
■ المعنى:
أي يغلب على ظنهم – بل يقينهم القلبي – أنهم ملاقو الله، فغلبة الظن هنا مقرونة بالإيمان القوي.
🔹 إشارة لطيفة :
قال ابن القيم في “مدارج السالكين”:
“الظن في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء:
☆ظن يقين،
☆وظن شكّ،
☆وظن تهمة،
والسياق هو الذي يبيّن المعنى المراد.”
🔹أحاديث نبويةعن اليقين:
☆اليقين سبيل النجاة:
قال رسول الله ﷺ وآله: “صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرُها بالبخل والأمل”.[صحيح الجامع ٣٨٤٥]
☆اليقين في الصلاة:
“إذا شَكَّ أَحَدُكُمْ في صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ”.[الدرر السنية_الموسوعةالحديثية]
☆اليقين والتوكل:
“هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ،وَلاَيَتَطَيَّرُونَ وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.[كشف الأستار ٣٩٣٩]،
☆اليقين وتخفيف المصائب:
“اللهم ارزقني من اليقين ما تُهَوِّنُ به عليَّ مصائبَ الدنيا”.[نقله النووي في باب آداب المجلس والجليس]
☆اليقين والعافية:
“سلوا الله اليقين و المعافاة، فما أوتي أحدٌ بعد اليقين خيرًا من العافية”.[نقله النسائي في (السنن الكبرى 10721]
☆اليقين سبب للراحة والسعادة:
“فإنَّ الله بَعْدِله وقِسْطِه جعل الرَّوْح والفَرَح في الرّضَا واليَقِين، وجعل الهَمَّ والحُزْنَ فى الشَكِّ والسخط”[نقله أبو نعيم في (حلية الأولياء 4/121)]
صدق رسول الله ص.
🔹في منهج أهل البيت ع:
☆الإمام علي ع:
«لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وَأَنتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً مَحْمُولاً»[شرح نهج البلاغة – 19باب المختار من الخطب والأوامر – ابن ابي الحديد]
هذاالقول البليغ يشير إلى أن الظنّ قد يكون سوءًا إذا أسرع الإنسان إلى تفسير لفظ صدر عن شخص بشيء سييّء، مع أنه قد يُحتمل خيراً.

☆وقال الامام علي ع أيضاً في «غرر نهج البلاغة»:
«إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجلٌ الظنّ برجل لم تَظْهر منه حوبة فَقَدْ ظَلَمَ، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجلٌ الظنّ برجل فَقَدْ غَرَّرَ» [نهج البلاغة ٤٨٩الحكمة ١١٤]
بمعنى أنه في زمن غلبة الفساد،فإن الظنّ الحسن قد يغترّ به المرء، ولكن في زمن شيوع الخير بين غالبية الناس؛قد يعتبر الظنّ السيّئ بالناس ظلماً.
☆وأيضًا من أقواله ع:
«فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ».[نهج البلاغة 430،طبعة صبحي الصالح].
هنا يربط عليه السلام بين سوء الظن بالله و صفات النفس الخبيثة.
☆كما أن الإمام علي عليه السلام يقول:
«ما كان من أمر مَعاد من الظن فهو ظنّ يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظنّ شكّ»[نفحات القرآن،مكارم الشيرازي، جزء5 صفحة: 313]
أي أنه في المسائل الغيبية (أمور الآخرة والمعاد) قد يُراد به ظن يقيني، أما في الأمور الدنيوية فهو غالباً ظنّ شكّ.
هذه الأقوال تدل على أن الإمام علياً عليه السلام يؤكد أن الظن قد يكون حسنًا أو سيئًا، وقد يُراد به ما هو أقوى من مجرد التخمين العادي، حسب المقام و السياق.
☆روي عن الإمام الهادي (ع):
«إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور، فحرام أن تظنّ بأحد سوءاً حتى يُعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيراً حتى يبدو ذلك منه.»
[بحارالأنوارج٧٢ص١٩٧]
إذن في الأوقات العادية يُنهى عن الظنّ السيئ، وفي الأزمنة التي يسود فيها الفسادالمطبق في المجتمع يُحثّ على التحقق والتثبّت قبل إظهار الظنّ الحسن أو السيئ.
☆من رواية للإمام الصادق ع أيضاً:
«إذا اتّهم المؤمن أخاه، اِنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء»[الكافي،نقلاً عن بحار الأنوار: ج٧٢
، ص١٩٨]
أي أن الظنّ السيئ يذيب الإيمان ، فله أثر كبير ومدمّر على النفس والعقيدة والمجتمع.
🔹في تفسير الميزان (العلامة الطباطبائي)
يقول في تفسيره لهذه الآية:
{وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم:28)
في هذا الموضع يوضّح السيد الطباطبائي أن الظن هو “التصديق الراجح” وليس بالضرورة العلم القطعي؛ أي أن الظنّ عندهم هو اعتقاد مرجّح، وليس يقينًا مطلقًا.
🔹هناك تحذير من الظنّ السيئ في كلمات أهل البيت والروايات، وذمّ لما يسبّبه من تدمير للإيمان والنية و العلاقات الاجتماعية.
🔹و في أقوال الامام علي عليه السلام يُبيَّن أن الظن قد يكون حسنًا وقد يكون مذمومًا، وأن الإنسان ينبغي أن يترجّح الخير على الأسوأ لكي لا يأثم.
🔹يتبع🔹

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار