خَنْقٌ مائي مُزدوج: العراق بين تَحكُّم تركيا وقَطْع إيران.. فمَن يَحمي الجَنوب؟
بقلم/عدنان صگر الخليفه
لم تَعُد الأزمة المائية التي تعصف بالعراق مُجرّد نقصٍ عابر في الإطلاقات، بل هي فضيحةٌ استراتيجيةٌ مُتكاملة كُشِفَت خيوطها على مرأى ومَسمع الجميع عبر تظاهرات مَفْرَق غَمّاس، التي كانت بمثابة صرخةِ الاستغاثةِ الأخيرة لفلاحين حُرموا من أدنى حقوقهم في زراعةِ محاصيلهم الأساسية كالشَّلِب. لقد أظهرت هذه التظاهرات مدى انكشاف الدولة العراقية أمام ضغطِ دولِ المَنبع الإقليمي؛ حيث تباينت ممارسات هذه الدول بين التَّحكُّم والتَّقنين الدقيق للإطلاقات من الجانب التركي، وبين الإلغاء والقَطعِ التَّامِ لجميعِ مَجاري الأنهارِ والروافد التي كانت تصبُ في العراق، عبر تحويلِها نهائياً من الجانب الإيراني؛ مما يُمثِّل فقداً دائماً لمصادر مائية حيوية. إن هذا المأزق الخارجي يُقابله عجزٌ داخليٌ صارخ، يتجلى في عدمِ قدرةِ بغداد على تفعيلِ أوراقِ ضغطٍ اقتصاديةٍ فاعلة كالمقاطعة الشاملة للتبادل التجاري، خشية التداعيات الداخلية المتمثلة في ارتفاعِ معدلات التضخم وزعزعةِ سلاسل الإمداد، وتجنباً لمواجهة اللوبي التجاري القوي الذي ازدهر على حسابِ الهيمنة الاستيرادية.
إن هذا العجز المُتراكم ليس سوى نتيجة مباشرة لـ “التقصير المتعمد” و “الظلم الصارخ” الذي تتعرض له المحافظات الجنوبية، التي تضخُ ما يُقاربُ تسعين بالمائة من الثروة النفطية، وتُمولُ الموازنات الانفجارية للدولة العراقية بأسرها. فبينما تُرفع شِعاراتُ التنمية الرنّانة، يبرز تساؤل جوهري حول وزارة التخطيط المسؤولة عن رسم مستقبل البلاد: هل تحولت هذه الوزارة من هيئة لوضع الاستراتيجيات الوطنية إلى أداة للتخطيط لإنشاء “ممالك حقيقية للسياسيين” وزيادة ممتلكاتهم على حساب قوت الشعب؟ لا يمكن استثناء هذه الوزارة من دائرة المسؤولية؛ فبما أن الفشل حتمي ومُتواطئ عليه في وزارات التنفيذ (كالزراعة والري والصناعة) مع غياب المساءلة والمهنية، فإن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على وزارة التخطيط التي تُشرع هذه الخطط وتُغطي على إخفاقها. فالشواهد تثبت أن التنمية المزعومة ليست سوى تنمية للممتلكات الشخصية للمسؤولين. فبدلاً من أن تُوَجّهَ هذه الثروات لإنشاءِ دروعٍ مائيةٍ استراتيجية (كإنجاز سدودٍ كبرى مثل بادوش وبخمة، التي توقفت بسبب الخلافات السياسية وهدر التمويل)، أُهدرت تلك الموارد في الفساد. ويتم التغطية على ذلك بالادعاء بإنجاز بنى تحتية؛ فتُنفَّذُ مشاريعُ الجسور والتبليط بمستويات رديئة لا تصمدُ حتى لعامٍ واحد، وتُفرضُ ضرائبُها على المواطنين، لتكون هذه المشاريع المتهالكة دليلاً إضافياً على فساد الإنفاق وغياب الكفاءة.
وتتفاقم مفارقة الظلم حين نرى أن هذه المحافظات المُنتجة لا تُحرمُ فقط من استدامة مواردها الزراعية نتيجة الجفاف؛ فالمحاصيلُ الاستراتيجيةُ الأخرى، كـ الحنطة والشعير في الموسم الشتوي، تتعثر هي الأخرى بسبب الحصص المائية الضيقة التي تفرضها الدولة نتيجة شح الإطلاقات، مما يهدد الأمن الغذائي الوطني في أهم موارده. إن هذا التقصير الحكومي المتعاقب في إدارة الملف المائي قد أسهم في خسارة العراق لأكبر موارده الزراعية في حوض الفرات والجنوب، والأدهى من ذلك أنه أدى إلى إنهاء الثروة الحيوانية وخسارتها بشكل شبه نهائي، مُجهِضاً بذلك أي فرصةٍ لإنشاء عمليات صناعية تحويلية كان من شأنها أن تنهض بواقع تلك المحافظات وتُعزز من تنوعها الاقتصادي. فضلاً عن ذلك، فإن المحافظات الجنوبية تتحملُ العبء البيئي والصحي لعمليات استخراج النفط، فتُحصدُ فيها الأمراضُ والتلوثُ والسرطانات. وقد تجلّى هذا الإهمال في أوضح صوره عبر التَّعدادِ الهائلِ للأيدي العاملة الأجنبية التي تتوافد للعمل في مشاريع النفط داخل تلك المحافظات، في تناقض صارخ مع أعداد العاطلين عن العمل من أهلها الأصليين الذين هُجِّروا قسراً من أراضيهم بعد تدمير موارد عيشهم؛ فهذا التمييز هو البرهان المنطقي القاطع على الممارسات الحقيقية التي تتعامل بها الحكومات ضد هذه المحافظات. كل هذا يوصلنا إلى استنتاج واحد واضح ومؤلم: أن هناك مَنهجاً مُتعمَّداً في إنهاءِ المواردِ وقتلِ أهلِ تلك المحافظات التي تمد العراق باقتصاده، لدرجة أن النجاح الأقصى لحكومات ما بعد 2003 أصبح مُقتصراً على توفير الحد الأدنى من مياه الشرب والاستعمال الآدمي الأساسي، مُلغيةً بذلك عملياً كافة المتطلبات المائية الأخرى للعراقيين، وتاركةً أهالي مفرق غماس في مواجهةِ الجفاف والظلم معاً.
زر الذهاب إلى الأعلى