بحث: العراق: من عهد الجمهوريات إلى معضلة الدولة بعد 2003
إعداد/الكاتب والباحث/ عدنان صگر الخليفه
مقدمة
يُعتبر تاريخ العراق الحديث، منذ إعلان النظام الجمهوري عام 1958، سلسلة من التحولات السياسية الجذرية التي أثرت بعمق في بنيته الاجتماعية والسياسية. لقد مرّ العراق بفترات حكم مختلفة، ابتداءً من العهد الجمهوري الأول، مروراً بفترة حكم حزب البعث، وانتهاءً بمرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. هذه التحولات، وإن بدت مختلفة في طبيعتها، إلا أنها تركت إرثاً من التحديات التي لا يزال الشعب العراقي يعاني منها. يهدف هذا البحث إلى تحليل المسار السياسي للعراق، من تأسيس الجمهوريات إلى الوضع الراهن، مع التركيز على الأزمات التي أفرزها كل نظام. إن هذه الرؤية والحلول التي يتضمنها البحث هي خلاصة أفكار ومبادرات “تجمع أهل العراق”. كما يسعى إلى تقديم رؤية مستقبلية وحلول عملية للخروج من المأزق الحالي، من خلال تبني نظام سياسي جديد قائم على مبدأ الكفاءة، ورفض المحاصصة، وتفعيل دور الشعب في صناعة القرار.
الفصل الأول: نشأة الجمهوريات ومسارها نحو الأزمة
تأسيس الجمهورية وتعدد الأنظمة
منذ إسقاط النظام الملكي في 14 تموز 1958، شهد العراق سلسلة من الأنظمة الجمهورية التي حاولت بناء دولة حديثة، لكنها اصطدمت بتحديات داخلية وخارجية. فالفترات التي تلت ذلك تميزت بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي، مما أدى إلى غياب التراكم المؤسساتي وتغيير القوانين والأنظمة باستمرار. هذا المسار من عدم الاستقرار أضعف ثقة المواطن بالدولة، وأدى إلى تدهور مستمر في الأوضاع العامة.
عهد الدكتاتورية: بناء دولة قوية أم قمع شامل؟
بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، خصوصاً في فترة حكم صدام حسين، تمكن النظام من فرض سيطرة كاملة على مفاصل الدولة، ووصل إلى مرحلة “الدكتاتورية الشمولية”. وقد أظهر هذا النظام القدرة على بناء مؤسسات قوية ظاهرياً، لكنه كان قائماً على القمع الأمني، وتغييب الرأي الآخر، وإقصاء كل من يختلف معه. هذه الفترة، ورغم ما يراها البعض من “قوة للدولة”، إلا أنها كانت مبنية على هشاشة داخلية، مما جعل انهيارها بعد عام 2003 أمراً حتمياً.
الاحتلال الأمريكي (2003): منعطف حاسم نحو المجهول
لقد شكّل الغزو الأمريكي للعراق نقطة تحول جذرية. فبدلاً من الانتقال السلس إلى الديمقراطية، شهدت البلاد انهياراً كاملاً لمؤسسات الدولة، حيث تم حل الجيش العراقي السابق، مما خلق فراغاً أمنياً كبيراً وفوضى عارمة. وقد أدى هذا إلى ظهور فصائل مسلحة، وانتشار ظاهرة الفساد، وتفاقم الصراعات الطائفية التي أشعلت البلاد.
المحاصصة الطائفية: أصل الأزمة الحالية
تم تأسيس النظام السياسي بعد عام 2003 على مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية. هذا النظام، القائم على تقسيم المناصب والوزارات بين المكونات، أدى إلى تفتيت الهوية الوطنية وتعزيز الانتماءات الفرعية. أفرز هذا النظام أزمات متتالية، من الفساد المستشري الذي حول مؤسسات الدولة إلى مقرات حزبية، إلى غياب المساءلة وانعدام الخدمات الأساسية، مما أدى إلى شعور عام بالإحباط والتهميش.
خطاب التضليل السياسي
في ظل هذا الواقع، عمدت القوى السياسية إلى رفع شعارات زائفة لتبرير فشلها والحفاظ على مكتسباتها. من أبرز هذه الشعارات “الحفاظ على المكتسبات”، والتي لا تعني سوى الحفاظ على مكتسبات شخصية وحزبية، بعيداً عن أي مكتسبات حقيقية للشعب. كما تم استغلال “دماء الشهداء” التي سالت في مواجهة الإرهاب، لتحويلها إلى أداة للمساومة السياسية، وكأن التضحيات كانت من أجل المناصب، وليس من أجل الوطن. هذا الخطاب الزائف يتكرر أيضاً من قبل قوى في الخارج تسعى للعودة إلى السلطة بنفس آليات الفساد، رافعة شعارات التغيير لكنها تخفي في جوهرها عقلية الدكتاتورية.
الفصل الثاني: الحلول المقترحة: رؤية لمستقبل العراق
الحل الأول: النظام الهجين كبديل للمحاصصة
يقترح هذا البحث الانتقال من النظام البرلماني الحالي إلى نظام هجين (شبه رئاسي)، يجمع بين مزايا النظامين الرئاسي والبرلماني. هذا النظام يهدف إلى توزيع السلطة ومنع احتكارها، وفي الوقت نفسه يمنح الشعب فرصة حقيقية للاختيار المباشر لقادته. تتمثل آلية الانتخاب المباشر في انتخاب شخصيتين في دائرة انتخابية واحدة على مستوى العراق: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. رئيس الجمهورية يُنتخب مباشرة من الشعب، ويتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة، مما يتيح له اتخاذ قرارات حاسمة بعيداً عن تأثير الأحزاب. ورئيس الوزراء يُنتخب مباشرة من الشعب أيضاً، ويُكلّف بتشكيل الحكومة وإدارة شؤونها اليومية، مع مسؤولية أمام البرلمان. هذه الآلية تضمن أن يكون كلا المنصبين على قدر متساوٍ من الشرعية الشعبية، وتُتيح للمجتمع العراقي اختيار قيادته بشكل كامل.
الحل الثاني: الحكومة الانتقالية المؤقتة
في حال لم تتبنَّ القوى السياسية الحل الأول، وهو أمر متوقع، يُصبح الحل الثاني هو المخرج الوحيد المتبقي. هذا الحل يتمثل في تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تتوقف عن العمل بالدستور الحالي، وتعمل على تهيئة وإجراء انتخابات حقيقية وعادلة. هذا الحل هو الأصعب على القوى المتنفذة لأنه يُلغي نفوذها بشكل كامل، ويُعيد القرار للشعب. يشترط هذا الحل أن تكون هذه الحكومة من اختيار النخب العراقية الأصيلة في الداخل، بعيداً عن أي شروط أو إملاءات دولية، لضمان أنها تمثل مصالح الشعب العراقي فقط.
إصلاح القوانين لتحقيق العدالة
لا يمكن أن ينجح أي نظام جديد دون إصلاح القوانين التي تخدم الفساد. يجب تعديل قانون الكتلة الأكبر ليُعطي الحق في تشكيل الحكومة للكتلة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، وليس للكتلة التي تتشكل عبر التحالفات بعد الفشل. كما يجب إلغاء قانون سانت ليغو 1.7 والعودة إلى قانون سانت ليغو الأصلي، وهو قانون انتخابي أكثر عدالة وشفافية، يُعطي فرصة حقيقية للمستقلين والقوائم الصغيرة. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعديل القوانين التي تُقيد حرية الصحفيين والمدونين، لتمكينهم من التعبير عن آرائهم ومحاسبة المسؤولين دون خوف.
الفصل الثالث: خارطة الطريق للتغيير
توحيد الرؤية ورفض المحاصصة
إن الحل الذي يطرحه هذا البحث يتطلب إرادة سياسية حقيقية. يجب على القوى الإصلاحية، سواء كانت في الداخل أو الخارج، أن ترفض المشاركة في العملية السياسية القائمة على المحاصصة. فبدلاً من أن تكون جزءاً من المشكلة، عليها أن تتوحد حول مشروع إصلاحي واضح، يمثل رؤية بديلة للبلد. هذا التوحيد في الرؤية، حتى لو لم يكتمل في الصفوف، هو الخطوة الأولى نحو التغيير. وهذا التوجه يمثل محكاً حقيقياً يميز المعارضة الجادة من المعارضة الزائفة التي لا تبحث إلا عن السلطة والنفوذ.
بناء نخبة وطنية حقيقية
يجب أن يعود القرار إلى النخبة الوطنية العراقية، التي تؤمن بالسيادة الوطنية وتعمل من أجل مصلحة العراق وشعبه، بعيداً عن الأجندات الخارجية. هذه النخبة هي وحدها القادرة على تحقيق الإصلاح وبناء دولة قوية، عادلة، وشفافة، تليق بالتضحيات التي قدمت من أجلها. إن هذا المنهج هو السبيل الوحيد لإعادة الاعتبار لدماء الشهداء، ولتحويلها من أداة للمساومة السياسية إلى حافز لبناء عراق مستقر ومزدهر.
ضرورة التوافق الإقليمي
لا يمكن لهذه الرؤية أن تكتمل دون توافق إقليمي حقيقي. يجب على القائمين على هذا المشروع إقناع المجتمع الإقليمي، وخاصة العربي، بجدواه، وبأنه يصب في مصلحة الاستقرار المشترك. إن هذا المشروع سيمكّن العراق من العودة كعضو فاعل ومساهم في بناء مجتمع إقليمي قائم على حسن الجوار والتكامل القيمي العربي والإسلامي. فالهدف ليس تعالي العراق على محيطه، أو تعالي المحيط عليه، بل هو إقامة علاقة تكاملية على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
خاتمة
مر العراق بمراحل تاريخية صعبة، ولكن الأزمة الحقيقية التي يواجهها اليوم هي أزمة نظام حكم، وليس أزمة أفراد. إن النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية قد أفرغ الديمقراطية من محتواها، وجعلها شكلاً دون مضمون. الحل يكمن في إرادة شعبية واعية ترفض هذا النظام، وتضغط من أجل تبني نظام سياسي جديد قائم على العدالة والكفاءة.
إن هذا المشروع، الذي يتبنى نظاماً هجيناً وإصلاحات قانونية شاملة، لا يهدف فقط إلى استبدال نظام بنظام آخر، بل إلى تغيير ثقافة الحكم بأكملها، وإعادة السيادة إلى الشعب العراقي، وتحقيق مكتسبات حقيقية في الحياة، وليس في السلطة. وهذه الرؤية هي من صميم عمل “تجمع أهل العراق” الذي يؤمن بأن هذا هو الطريق الوحيد لإنهاء دورة العنف والصراع، وبناء مستقبل مزدهر يليق بتاريخ العراق العظيم.
زر الذهاب إلى الأعلى