الرئيسيةالمقالات

​أيادٍ خفية ترسم خريطة العراق: من الإقصاء إلى استراتيجية البقاء

​أيادٍ خفية ترسم خريطة العراق: من الإقصاء إلى استراتيجية البقاء

بقلم/عدنان صگر الخليفه

​في مشهد سياسي بالغ التعقيد كالمشهد العراقي، حيث تتعدد القوى وتتقاطع المصالح، يبرز تساؤل حاسم يلقي بظلاله على مستقبل البلد: لماذا يتم استبعاد قادة سياسيين نافذين من العملية الانتخابية في الوقت الحاضر، رغم أنهم كانوا جزءاً أساسياً منها لعقود؟ إن الإجابة على هذا التساؤل لا تكمن في ظاهر الأمور، بل في فهم أعمق للعبة السلطة التي لا تدار بالضرورة من داخل الدائرة السياسية العراقية نفسها. فما يحدث قد لا يكون إلا جزءاً من استراتيجية معقدة ترسمها أيادٍ خفية من خارج الحدود.
​إن ظاهرة الإقصاء السياسي، التي تُنفذ عبر هيئات ومؤسسات قائمة منذ عقدين من الزمن، تحمل في طياتها تناقضاً كبيراً. فالقوانين التي تُفعّل الآن، كقوانين المساءلة والعدالة، لم تُطبق على هؤلاء القادة عندما كانوا في أوج نفوذهم ويشكلون الحكومات ويقودون البرلمان. هذا التوقيت بالذات يشي بأن الأمر لا يتعلق بتطبيق القانون بقدر ما هو أداة في يد قوة أكبر تسعى لإعادة هندسة المشهد السياسي. هذه القوة، التي يمكن وصفها بـ “اليد الخفية”، لا تعمل بشكل مباشر، بل من خلال وكلاء محليين، وهم في هذه الحالة الأحزاب السياسية التي تسيطر على مفاصل الدولة.
​قد يكون الهدف الأول من هذا الإقصاء هو منح هؤلاء القادة “مظلومية” سياسية، لتحويل صورتهم من قادة متهمين بالفساد إلى ضحايا لعملية سياسية لا ترحم. فمن خلال استبعادهم، يبتعدون عن الواجهة المرتبطة بفشل الحكومات، ليصبحوا رموزاً وطنية مُستهدفة من قبل قوى “فاسدة” أو “أجنبية”، مما يمنحهم تعاطفاً شعبياً قد لا يحظون به لو شاركوا في الانتخابات بشكل مباشر. إنها استراتيجية ذكية لكسب شرعية جديدة بعيداً عن صخب المساءلة، فخبرتهم الحقيقية لم تكن في إدارة الدولة، بل في إدارة المصالح والفساد.
​وبعيداً عن كسب الشعبية، فإن هذا الإقصاء قد يكون جزءاً من خطة أكبر لإنقاذ المنظومة السياسية بأكملها. فالنظام، الذي بات يواجه غضباً شعبياً متصاعداً، قد يضحي ببعض رموزه الأكثر شهرة لامتصاص هذا الغضب، ويخلق وهماً بحدوث تغيير حقيقي. من خلال إبعاد هذه الوجوه، يُظهر النظام مرونة وقدرة على “الإصلاح”، مما يضمن بقاءه واستمرارية سيطرة “اليد الخفية” التي تديره. هذا التغيير ليس جذرياً، بل هو أشبه بإعادة تدوير للقيادات، حيث يمكن لهؤلاء القادة العودة في المستقبل بأدوار جديدة، أو الاستمرار في إدارة المشهد من الخلف.
​ولكن هناك احتمالات أكثر خطورة، فقد يكون الهدف من كل هذا هو إعادة إثارة الطائفية كأداة للسيطرة. فاستهداف قادة من طائفة معينة قد يُستخدم لإثارة غضب أتباعها، مما يعيد خلط الأوراق وإعادة الصراع إلى مربعاته القديمة. هذا يضمن انشغال الشعب بالصراعات الداخلية وتركيزه على الانتماء الطائفي بدلاً من المطالبة بالحقوق الأساسية ومحاسبة الفاسدين، وهو ما يخدم مصلحة من يريد إبقاء العراق ضعيفاً وغير مستقر.
​وفي النهاية، يبقى التساؤل الأهم: هل هذه الأحداث هي مقدمة لتغيير حقيقي وجذري في النظام، أم أنها مجرد تكتيكات للحفاظ على الوضع القائم؟ إن تحقيق التغيير يعتمد على شرط واحد وهو أن تعلن الأحزاب التي استُبعد قادتها انسحابها الكامل من العملية السياسية، رفضاً للوضع الراهن. ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيداً عن الواقع، فالأحزاب المتحكمة في المشهد ترفض التخلي عن مكتسباتها ومصالحها، مما يجعلها أداة في يد “اليد الخفية” التي لا تريد للعراق أن ينهض وأن يستقر. فما يجري ليس فوضى عشوائية، بل هو إدارة دقيقة للفوضى، هدفها الأسمى الحفاظ على النفوذ والسيطرة، حتى لو كان الثمن هو استمرار معاناة شعب بأكمله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار