السيادة الزائفة وأزمة الولاء في المشهد العراقي
بقلم/عدنان صگر الخليفه
لطالما ظلت الحكمة الشعبية “حرامي لا تصير، من سلطان لا تخاف” ميزاناً أخلاقياً وسياسياً شاهداً على أنَّ استقامة الذات هي وحدها كفيلة بكفّ أذى السلطان. غير أنَّ المشهد العراقي الراهن، وما تلاه من مسار معقّد لتشكيل الحكومات عقب عام 2003، يمثل انقلاباً إجبارياً لهذه الحكمة. فلو كانت نتائج الانتخابات منبثقة حقاً عن إرادة وطنية خالصة، لَما اضطر الفائزون إلى التنقّل بين العواصم الإقليمية والدولية سعياً لـ “الضوء الأخضر”، أو القبول بـ “الإملاءات” الخارجية لتمرير التوافقات السياسية. إنَّ هذا التناقض الصارخ بين الشعار المُعلَن (السيادة) والواقع المُمارَس (التبعية) يكشف عن جوهر الأزمة: إذ تحوَّل الوطن، في نظر الطبقة السياسية المتنفذة، من غاية مقدسة يجب الذود عنها وإعمارها، إلى مجرد وسيلة ضامنة للاستدامة في السلطة، عبر تقديم الولاءات والخدمات للأطراف الخارجية التي تملك مفاتيح البقاء والتمكين.
إنَّ الدلالة الثابتة لهذا الارتهان تكمن في أنَّ الممسكين بزمام الأمر في العراق لم يعودوا ينظرون إلى العراق كـ “وطن”، بل كـ “مغانم” تُدار وفقاً لتعليمات الواهب الخارجي، ويزيد الأمر سوءاً أنَّ الولاءات المزدوجة لكثير من الساسة تجعل القرار العراقي رهناً للأجندات الأجنبية، مما يكرس تبديد الثروات الوطنية على حساب التنمية والاستقرار. هذا الوضع أدى إلى اهتراء شامل في المنظومة الأخلاقية؛ حيث أضحت قيم النفاق والكذب والفساد (الذي لا يقتصر على سرقة المال فحسب، بل يمتد ليشمل سرقة الإرادة الوطنية والفرص التنموية) هي السمات الغالبة، وبلغ الأمر حدَّ انقلاب المفاهيم الفلسفية، حيث يسعى السياسي المرتهن لإقناع الشعب بأنَّ الخضوع لنظام فاسد هو عين “الواقعية” وذروة “الحرية” الممكنة، في حين أنَّ تمرير الإملاءات الخارجية هو جوهر “السيادة”.
ولم يأتِ هذا التخدير للإرادة الشعبية مصادفة، بل هو نتاج أجندة ممنهجة هدفت إلى إيصال المجتمع إلى حالة “شبه التجهيل الكامل”، وذلك عبر ضرب ركائز الوعي المتمثلة في المنظومة التعليمية التي أُضعفت عمداً لتُنتج أجيالاً فاقدة للحس النقدي، وفي المنظومة المجتمعية التي فُككت عبر أدوات الفتنة والإلهاء الإعلامي. بيد أنَّ الضربة الأقسى جاءت من “النخب” المجتمعية التي كان يُعوَّل عليها حراسة الوعي، فإذا بها تنضم إلى ركب المستفيدين، مفضلة المغانم والنفوذ على الأمانة الوطنية.
إنَّ هذا المشهد يُحيلنا مجدداً إلى الحكمة الأصلية: لقد أصبح الساسة “حرامية” لأنهم سرقوا الإرادة، ولذلك فهم بالضرورة “خائفون” ومرتهنون للسلطان الخارجي، كونه الأداة الوحيدة لضمان استمرار بقائهم. ولهذا، يظل تعديل الدستور، لإنهاء نظام المحاصصة وتفعيل المساءلة وتأكيد السيادة المطلقة، هو المطلب الجذري الذي يرفضه هؤلاء حفاظاً على وجودهم، وخشية المحاكمة العادلة التي سيفرضها عليهم الشعب حينما يستعيد وعيه وإرادته المسلوبة.
زر الذهاب إلى الأعلى