الشعر الشعبي العراقي: قراءة في ثنائية الهاون والجار وأزمة السيادة ما بعد 2003
بقلم/ عدنان صگر الخليفه
لا يزال الشعر الشعبي في العراق، ببراعة إيجازه وعمق رمزيته، خير من يعكس التحولات الوطنية الكبرى، متجاوزاً بذلك حدود التعبير العاطفي ليصبح أداة نقد سياسي حادة. إن الأبيات التي تداولها الناس مؤخراً، والتي تتحدث عن “الهاون” و*”الجار”*، تختزل بأسلوب بليغ مأساة الحكم والسيادة في مرحلة ما بعد الاحتلال عام 2003. هذه الثنائية الشعرية تفكك الأزمة العراقية إلى مصدرين رئيسيين للعطب: الخيانة الداخلية والتعدي الخارجي.
يمثل بيت “أنا اللي صرت گهوة وأنت هاون أون وتسحن بإيدك عليّه” التعبير الأبلغ عن فشل التمثيل السياسي وعبء الحكم. ففي هذا المجاز المؤلم، تتحول الفئة التي أمسكت بزمام السلطة بعد عقود من الإقصاء، إلى قوة ضغط وطحن على أهلها وقواعدها الشعبية بدلاً من أن تكون سنداً لها. هنا، يغدو النائب السياسي أو المسؤول التنفيذي هو “الهاون” الذي يدق ويُعجن “القهوة” (الشعب)، مسبباً لها المعاناة والوصم الاجتماعي نتيجة لفساد إداري مستشرٍ وولاءات متضاربة أثبتت أنها ذاتية ومصلحية بحتة. هذا النزيف الداخلي وضع كتلاً اجتماعية بأكملها في موقف الدفاع والتبرؤ من أفعال نخبتها، حاملة على كاهلها وزر سوء الإدارة نيابةً عمن كان يفترض أن يمثلها.
في المقابل، يتولى بيت “اللي يمس الجار مثل الفعل باخته ببيت الله وتحمل كل خطيه” مهمة توصيف انتهاك السيادة الوطنية. برفع “حرمة الجار” إلى مصاف القدسية الدينية التي تعادل حرمة “بيت الله”، يجسد الوجدان الشعبي مدى فداحة التعدي الخارجي. هذا التشبيه الحاسم يوجه نقداً لاذعاً وصارماً للقوى الإقليمية التي استغلت ضعف الدولة العراقية بعد 2003 للتدخل في شؤونها الداخلية، منتهكة بذلك حق الجوار وأصوله الأخلاقية. إن هذه التدخلات، سواء كانت عبر دعم أجندات خاصة أو التأثير في القرار السيادي، تُعد في هذا السياق الشعري بمثابة خيانة لشرف العراق وبخته الوطني، وهي خطيئة جامعة لكل المفاسد.
إن قراءة هذين البيتين معاً تكشف عن دائرة الخطر المزدوجة التي يواجهها العراق: فمن جهة، ثمة خيانة داخلية تُقدم الوقود لتستغله الأجندات الإقليمية، ومن جهة أخرى، ثمة تعدٍ خارجي يضاعف من أثر هذه الخيانة. إن استعادة العراق لدوره الطبيعي لا يمكن أن تتم إلا بتحطيم “الهاون” السياسي الفاسد أولاً، ثم ردع “الجار” المتعدي، وإعادة تعريف الشرف والمسؤولية في قاموس السياسة الوطنية.
زر الذهاب إلى الأعلى