“إن شاء الله” ودلالاتها القرآنية وآراء المفسّرين
(1_3)
بقلم: د.رعدهادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي
🔗خصوصية المفردة القرآنية-50
⭕المشيئة الربانية في حياة الإنسان
تتميّز المفردة القرآنية ببنائها الدقيق و استعمالها المحكم الذي لا يتجاوز موضعه ولا يتكرر بلا حكمة.
ومن النماذج البارزة في ذلك جملة «إن شاء الله» التي ترِد في القرآن بصيغة مخصوصة وفي سياقات مدروسة، مما يكشف عن بعدٍ عقدي وبياني بالغ الأهمية.
وقد ورد هذا التركيب ستّ مرّات، في ستّ آيات، ضمن ستّ سور، وهو نظام رقميّ ودلاليّ لافت يُسهم في فهم البنية القرآنية للمشيئة الربانية في حياة الإنسان.
📌أولاً: المواضع الستة لعبارة “إن شاء الله” في القرآن:
1. البقرة: 70
﴿وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾
في سياق البحث عن البقرة المأمور بها، وطلب الهداية إلى حقيقتها.
2. يوسف: 99
﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾
في مقام الطمأنة والاستقبال المستقبلي المتعلّق بالأمان.
3. الكهف: 69
﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾
في وعد موسى لمعلّمه العبد الصالح الخضر (ع) على احتمال ما يراه مما قد لا يُحسن تأويله.
4. القصص: 27
﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
في سياق العقد بين موسى وشعيب على الخدمة لثمان أو عشر سنين.
5. الصافات: 102
﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
في حوار إبراهيم(ع) مع ابنه إسماعيل(ع) حين عرض عليه رؤيا الذبح.
6. الفتح: 27
﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾
في وعد الله لرسوله(ص) بدخول المسجد الحرام بعد صلح الحديبية.
📌ثانيًا: القاسم الدلالي المشترك للمواضع الستّة:
بعد النظر في هذه الآيات يظهر أنّ عبارة «إن شاء الله» وردت في سياقات تجمعها ثلاثة عناصر:
🔹1.ارتباط الفعل بالمستقبل (ستجدني – لتدخلن – ادخلوا – إنا لمهتدون).
🔹2.أمر لا يملك الإنسان التحكم الكامل به (الهداية، الصلاح، الصبر، الأمان، تحقق الوعد الإلهي).
🔹3.ترسيخ أدب التعلق بالمشيئة كجانب من جوانب التوحيد العملي.
فالإنسان لا يقطع بشأن مستقبل لا يملك أسبابه إلا بقدرٍ يسّره الله.
📌ثالثًا: التحليل اللغوي والبلاغي للتركيب
■«إن»: أداة شرط تفيد تعليق الفعل على حصول شيء آخر.
■«شاء»: تفيد الإرادة والإذن والتقدير.
■«الله»: تعظيم للمراد وتحديدٌ للفاعل الحقيقي.
🔹التركيب كليًا: يفيد تعليقًا وجوديًا لا شكليًا، أي أن وقوع الفعل منوط بإذن الله، لا مجرد عبارة للتزيين اللفظي.
📌رابعًا: آراء بعض كبار المفسّرين حول عبارة “إن شاء الله”
⭕1/العلامة الطباطبائي (تفسير الميزان)
أبرز ما قاله:
🔹يرى أنّ العبارة ليست مجرد لياقة كلامية، بل تعليق واقعي للفعل على المشيئة الإلهية.
🔹ذكر «إن شاء الله» هو إظهار لعقيدة التوحيد في التدبير.
🔹يفرّق بين الوعد البشري الذي لا يكتمل إلا بذكر المشيئة، وبين الوعد الإلهي الذي يظهر فيه الاستخدام لتعليم البشر أدب التعامل مع المستقبل.
🔹يربط الطباطبائي هذا التركيب بآية: «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله» على أنها قاعدة كلية في هيكلة الإرادة البشرية.
⭕2 ـ الآملي(تفسير تسنيم)
يضيف الشيخ الآملي:
أن المشيئة الإلهية ليست مجرد سماح، بل إفاضة وجودية للفعل.
عبارة “إن شاء الله” تمثل جسرًا وجوديًا بين العبد وربه؛ فالإنسان لا يملك فعلًا إلا بما يفيض الله عليه من القدرة.
يصرّح أن ترك ذكر المشيئة في مقام الوعد أو التخطيط المستقبلي هو نقص في أدب العبودية.
⭕3/الطبري(جامع البيان)
يُبرز الطبري جانبًا آخر:
“إن شاء الله” في سياق الكهف تعليم للنبي ﷺوآله ألا يقطع بأمر مستقبل.
ويركّز على أن العبارة تفيد الاستثناء المعلِّق، وأنها شرطٌ في كل كلام يتعلق بعلم الغيب أو التصرف المستقبلي.
ويرى أن ورودها في الوعد الإلهي (كما في الفتح) ليس لعدم تحقق الوعد، بل هو تعليم للأمة بأن تُسند كل مستقبلٍ لله.
⭕4 ـ ابن كثير:
يقرّر ابن كثير أمورًا مهمة:
أن العبارة صيغة توحيد وتواضع، تمنع العبد من الغرور أو القطع بما لا يملك.
ويشير إلى أنّ السلف كانوا يعدّون الوعد بلا تعليق على المشيئة من اليمين المنعقدة أحيانًا، لما فيه من القطع.
ويرى أن كل مواضع «إن شاء الله» جاءت في القرآن لتعليم عبودية المستقبل.
⭕5/الشوكاني (فتح القدير)
يؤكد الشوكاني أن:
■جملة “إن شاء الله” تفيد تعليق الوقوع تعليقًا حقيقيًا.
■حذفها في مقام التنبؤ بالمستقبل خلل في أدب العالم بالله.
■ويَعتبر الشوكاني أن هذه العبارة تمثل قاعدة من قواعد العقيدة:
“لا مستقبل يُنسب للعبد إلا مقيدًا بمشيئة الله”.
📌5/خلاصة دلالية جامعة
من خلال المواضع الستّة وآراء المفسرين الخمسة تظهر 5أمور:
🔹1.العبارة منهجٌ قرآنيّ لا مجرد صيغة اجتماعية.
🔹2.كل مواردها مرتبطة بأمور مستقبلية خارجة عن قدرة الإنسان المباشرة.
🔹3.سياقاتها تجمع بين:الهداية، الصبر، الصلاح، الأمان، تحقق الوعد.
🔹4.المفسرون – شيعةً وسنة – يُجمعون على أنها ترسيخٌ لعقيدة المشيئة وأن الفعل البشري مقيّدٌ بإذن الله.
🔹5.التركيب عامل توازن بين الأخذ بالأسباب وبين إرجاع القدرة إلى الله.
📌6/نتائج البحث:
⭕1.ورود عبارة “إن شاء الله” ستّ مرّات فقط يبرز ضبطًا قرآنيًا في بناء المفردة.
⭕2.التركيب يؤسس لبناء عقدي في غاية الأهمية:لا قطع في المستقبل إلا بمشيئة الله.
⭕3.آراء المفسرين الخمسة – رغم اختلاف مدارسهم – تتفق على محورية المشيئة في الفعل البشري.
⭕4.العبارة ليست أداة شكّ، بل أداة يقين توحيدي.
⭕5.توظيفها في القرآن يُراد منه تربية الإنسان على التواضع والتسليم مع السعي والعمل.
🔹يتبع🔹
زر الذهاب إلى الأعلى