لعبة الهيمنة.. كيف رسخت واشنطن نظام المحاصصة في العراق؟
بقلم/عدنان صگر الخليفه
لقد تجاوز تصريح المبعوث الأمريكي، مارك سفايا، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حول رفض تدخل أي قوة أجنبية في تشكيل الحكومة العراقية، كونه مجرد تحذير لدول الجوار، ليصبح إعلاناً يكشف عن جوهر التعامل الأمريكي مع العراق كـ “محمية” يُراد لها أن تظل خاضعة لإدارة الهيمنة. يكمن التناقض الصارخ في هذا الموقف في أن واشنطن تُركز على إدارة الصراع الخارجي، بينما تتجاهل بوعي مريب الإصلاح الجذري للبنية الداخلية التي تُمثل منبع الأزمة، والمتمثلة في النظام الانتخابي القائم على المحاصصة الطائفية والحزبية. فلو كانت الولايات المتحدة تمتلك مصداقية حقيقية تتجاوز مصالحها الآنية، لكان أولى بها الضغط لتعديل قانون الانتخابات لضمان ولادة سلطة تنفيذية تنهي الولاءات الخارجية وتكون خاضعة للمصلحة الوطنية العراقية فحسب. هذا التغاضي المستمر يُفسر على أنه قبول عملي، وربما تواطؤ استراتيجي، في إدامة الفساد وسوء الإدارة لضمان بقاء النظام السياسي العراقي ضعيفاً وقابلاً للابتزاز والسيطرة غير المباشرة، مما يرسخ قناعة أن المصالح الأمريكية لا تكمن في عراق مستقل بل في عراق مُدار.
ويتجلى هذا التناقض في عملية منح النظام شرعية زائفة عبر التلاعب الإحصائي بنتائج الانتخابات. إذ يتم الإعلان عن نسب مشاركة تتجاوز الخمسين بالمئة، معتمدة في حسابها على قاعدة بيانات ضيقة (حاملي البطاقة البايومترية)، وهو تكتيك يهدف إلى محو حقيقة المقاطعة الواسعة التي تتبلور عن إحباط شعبي عميق، وإلغاء حجة المعارضة بأن أكثر من ثلثي المؤهلين يقاطعون العملية. إن هذه الديمقراطية الشكلية تضمن أن عملية الاختيار الحقيقية للمناصب السيادية والحساسة – كرئاسة الوزراء والوزارات – تُحسم عبر صفقات الكتل بعيداً عن صناديق الاقتراع وإرادة الناخب. وتتكامل هذه الآلية مع إستراتيجية قمع مُمنهجة تستهدف كل صوت وطني حر، حيث يُواجه المعارض بـ التخوين الأيديولوجي (باتهامات جاهزة كالبعثية والإرهاب) أو التجميد القضائي عبر الدعاوى الكيدية التي تستنزف وقته وجهده، وصولاً إلى أقصى درجات الإيذاء الجسدي والترهيب.
إن التوصيف الدقيق للواقع يؤكد أن النفوذ الإقليمي لم ينشأ في فراغ، بل وُلد من رحم تقصير أمريكي أو قبول ضمني مُتعمد. فقد ساهم المحيط الإقليمي، سواء إيران أو بعض الدول العربية، مساهمة كبيرة في تكريس هذا النفوذ عبر تبني المشروع الطائفي الذي استغلته القوى المتنافسة، وحدث كل ذلك بموافقة وتمانٍ من الولايات المتحدة. عندما تمهلت الولايات المتحدة أو تغاضت عن مسؤوليتها في تحصين الدولة العراقية ضد التبعية، فقد سهلت على القوى الإقليمية الأخرى ملء الفراغ، جاعلة من العراق يدار بقوى تعمل بتفويض أمريكي مباشر أو ببيئة نشأت بقرار أمريكي. وعليه، فإن كل ما نتج عن هذا الواقع من تفشي للفساد الإداري والمالي، وتفاقم لسوء الإدارة، وظهور للتنظيمات الإرهابية، واستفحال للطائفية السياسية، يقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها القوة التي أسست وأشرفت على هذا النظام الهش والمحاصص. بالتالي، فإن الأصوات التي تروج لوهم قدوم التغيير عبر القرار الأمريكي لا تؤدي إلا إلى تخدير الإرادة الشعبية وإجهاض جهود الحراك الوطني الداخلي. هذا التخدير يخدم بشكل مباشر القوى المتحكمة، ويؤكد أن التعويل على أي تغيير خارجي هو وهمٌ محض لا يُفضي إلا إلى ترسيخ حكم المحاصصة الذي أوصل العراق إلى حالته الراهنة من التبعية والوهن.
زر الذهاب إلى الأعلى