ديمقراطية الكذبة الكبرى: في العراق، يتقاسمون الثروة والامتيازات ويبيعون الشارع شعارات المظلومية!
بقلم/عدنان صگر الخليفه
يستند المشهد السياسي العراقي برمته إلى مفارقة وجودية تكاد تلامس العبث؛ ففي خضم الزخم الانتخابي وتهافت المواطنين على صناديق الاقتراع، يظل الصوت الأشد ارتفاعاً هو الشكوى من انعدام التمثيل الفعلي والمظلومية المكوناتية. غير أن الحقيقة الجوهرية التي تقبع خلف هذا المشهد هي أن هذا الادعاء، الذي يروّجه الخارجون عن إطار السلطة والتمثيل الحزبي المتحكم بمقدرات البلاد (سواء كانوا مدونين، معارضين، أو مدّعين للدفاع عن المكون)، لا يعدو كونه كذبة كبرى ووظيفة وحيدة لإدامة منظومة المحاصصة والفساد التي تسللت إلى مفاصل الدولة. إن المبتغى الأسمى لتلك الأصوات المغمورة هو تكريس ديمومة الحكم عبر زرع بذور الخوف بين مكونات الشعب العراقي، ليبقى المواطنون في حالة ريبة متبادلة يسودها اعتقاد بأن “الكل يخون الكل”، مما يحول دون رص الصفوف وبناء الوعي الوطني الموحد. هذا الانشغال بالصراع المكوناتي يضمن استمرار سيطرة النخبة المتحكمة على المقدرات كافة، بينما يتخلى عنها السياسيون الفائزون بمجرد حصولهم على الحصص المتفق عليها، إقراراً منهم وقبولاً بالنظام.
إن هذا النظام ليس نموذجاً ديمقراطياً، بل هو نظام توافقي قسري؛ حيث جرى تقسيم السلطة إلى حصص ثابتة وغير قابلة للمراجعة، بمعزل عن نتائج العملية الانتخابية. فالمحاصصة تضمن المقاعد السيادية الثلاثة لكل مكون، وتمتد لتشمل توزيع حصص الوزارات، وصولاً إلى التعيينات في الدرجات الوظيفية الخاصة والمؤسسات الأمنية الحساسة، محوّلةً الوظيفة من استحقاق كفاءة إلى مكافأة ولاء. كما أن الموازنة العامة للدولة، وهي شريان الوطن، تتحول إلى وثيقة غنائم تُقسَّم بين الأحزاب لتمويل مشاريعها ومصالحها الضيقة، لا لتلبية الاحتياجات الوطنية الملحة.
والأكثر كشفاً لزيف هذه المنظومة، هو تهاوي الخطاب الذي يزعم أن مكوناً بعينه هو المستفيد الأوحد؛ فالمحافظات ذات الأغلبية الشيعية، على سبيل المثال، تعاني من حرمان شامل يطال الصحة والتعليم والبنية التحتية، وهي مظلومية لا تُقارن حتى بأفقر المحافظات الأخرى. هذا يبرهن أن الاستفادة الحقيقية تنحصر في النخبة السياسية المتحكمة من كل الأطياف. وعندما يُطالَب هؤلاء المسؤولون بمساءلة عن هذا الفشل، يلجأون إلى أعذار وصلت إلى حد العبثية، إذ يلقي بعضهم اللوم على قوى خارجية موهومة (كادعاء أن إسرائيل تعيق عملهم)، في تهرب واضح من مسؤولية إدارة الثروات الهائلة المتاحة.
وعلى الرغم من أن الفساد وهدر الأموال والمقدرات العراقية بات حقيقة عالمية، تؤكدها تقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وحتى تصريح شخصيات مؤثرة كـ دونالد ترامب عن عجز العراق عن إدارة ثروته الطائلة، إلا أن هذا النظام يظل محصناً ومحمياً دولياً. فالمجتمع الدولي يدعم هذا الترتيب التوافقي ويقدم له التهاني بالانتخابات، لأنه يضمن استقراراً سياسياً قابلاً للتنبؤ يحمي مصالحه الاستراتيجية، متجاهلاً دماء العراقيين التي أُريقت في سبيل الإصلاح. وعندما تحاول دول أوروبية التعبير عن رفضها برفض أوراق سفراء معينين بالولاء الحزبي، يرفع السياسيون العراقيون شعار “الشأن الداخلي” و”السيادة” كدفاع أخير لحماية حقهم في تقاسم الحصص والامتيازات.
في نهاية المطاف، يتجلى التناقض الأكبر في الامتيازات المالية للنخبة، التي تضمن رواتب هي من بين الأغلى عالمياً مقابل أداء متدنٍ لا يتجاوز 5% من أداء نظرائهم، وهو الثمن الذي يدفعه الوطن للحفاظ على قفص ذهبي يضمن ولاء السياسيين للنظام لا للشعب. إن الخاسر الأوحد في هذه الديمقراطية الزائفة هو المواطن العراقي الذي أصبحت حقوقه وكرامته أداة للمساومة.
ملاحظة للقارئ: إن هذا التحليل الذي يصف واقعنا العراقي، ليس نقداً يهدف إلى إدانة الذات، بل هو توصيف دقيق وصريح للواقع الحالي كما هو. نقدمه بهذه الحقيقة المطلقة لنقطع الطريق أمام أي طرف يسعى لرسم صورة زائفة أو غير حقيقية تخدم أجندته، ولنؤكد أننا لا نزيف واقعنا بل نتكلم عنه بشفافية كاملة.
زر الذهاب إلى الأعلى