التقاريرالرئيسية

بين الظن واليقين: مقاربة قرآنية نبوية وعقلية

بين الظن واليقين:
مقاربة قرآنية نبوية وعقلية
<><><><><><><><>

🔗خصوصية المفردة القرآنية 48

بقلم: د. رعدهادي جبارة
الأمين العام  للمجمع القرآني الدولي

-سوءالظن هدام الأسرة
﷽﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجتَنِبوا كَثيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلا تَجَسَّسوا وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخيهِ مَيتًا فَكَرِهتُموهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوّابٌ رَحيمٌ﴾
[الحجرات: ١٢]
📌 المقدمة
تُعَدُّ ثنائية الظن واليقين من المفاهيم الجوهرية في البناء المعرفي والأخلاقي في الفكر الإسلامي، إذ ترتبط مباشرة بمنظومة القيم التي تضبط تعامل الإنسان مع ذاته ومع الآخرين. فالقرآن الكريم، في مواضع متعددة، يوجّه العقل إلى التمييز بين الظن الذي لا يقوم على برهان، واليقين الذي يُبنى على الدليل والحقيقة. كما أن السنة النبوية الشريفة جاءت مكمّلة لهذا التوجيه، لتضع الإنسان أمام مسؤولية فكرية وسلوكية تتجلى في ضرورة التثبّت، وحسن الظن، وتجنّب الاتهام والريبة.

ويأتي هذا البحث الموسوم بـ «بين الظن واليقين: مقاربة قرآنية نبوية وعقلية» في حلقته الرابعة والأخيرة، ليسلّط الضوء على أحد أهم التطبيقات العملية لهذه الثنائية، وهو أثر سوء الظن في تفكك الأسرة والمجتمع.
يتناول البحث بالتحليل نصوصًا قرآنية و حديثية وتفاسير معاصرة، في ضوء المنهج العقلي و الاجتماعي، مبيّنًا أن الظن السلبي لا يقتصر على كونه انحرافًا في التفكير، بل يمتد ليكون عاملًا مهددًا لبنية الأسرة واستقرارها، و مولّدًا لأزمات الثقة و الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع.
إن الهدف من هذه المقاربة هو الكشف عن العلاقة بين المفردة القرآنية ودلالتها في السياق الاجتماعي، واستجلاء كيفية تفاعل البعد القيمي للنص القرآني مع الواقع النفسي والسلوكي للإنسان، عبر منظور علمي يجمع بين التحليل النصي والتأمل العقلي والمقاربة الواقعية.

📌حسن الظن هو الأصل
ينبغي أن يحمل أمر المسلم على السلامة، وأن يحسن الظن به، وأن تلتمس له الأعذار ما وجد إلى ذلك سبيلا. فالمؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات.
ويتأكد حسن الظن بين الزوجين، لما جعل الله بينهما من المودة والرحمة، ولِما أُمِرا به من حسن العشرة،
قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
﷽{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا}
[الحجرات: 12].
قال السعدي في تفسيره:
نهى الله عز وجل عن كثير من الظن السيء بالمؤمنين حيث قال: إن بعض الظن إثم، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة.
ثم قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
{ ولا تجسسوا}
أي لا تفتشوا عن عورات المسلمين ولاتتبعوها، ودعوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن زلاته، التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. فالظنون التي لا تستند على ما يبررها شرعاً لا تجوز ،نظراً للآية السابقة،
ولقوله ﴿ ﷺ وآله ﴾ : إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث..”اسلام ويب”.

📌سوءظن الزوجين يهدم الأسرة ويدمرها⛏️:
إن من أسباب الشقاق و الخلاف بين الزوجين: سوء ظنِّ الزوجة بزوجها,
_إن تأخَّر الزوج عن البيت قليلاً أساءت الظنَّ به,
_إن رأته يتحدَّث على الهاتف بصوت منخفض أساءت الظن به,
_و إن رأته متطيِّباً متعطِّراً أساءت الظن به,
_و إن رأته شارداً بذهنه أساءت الظن به,
_و إن سافر مع صديق له أو في مهمة رسمية أساءت الظن به,
_وإن ذهب بنزهة ليخلو بنفسه ويهدأ ويبتعد عن الضوضاء والثرثرة، و يمتع بصره برؤية مناظر البساتين أو عند البحر أساءت الظن به, و هكذا…وكلها من إلقاءات الشيطان في عقلها.
وعندما يكون هكذا حالها, فإنها تفتعل المشاكل في الأسرة وتخلقها من لا شيء, بل تقلب الحياة الأسرية إلى شقاء وجحيم, وربما يصل الأمر إلى إحراج الزوج ودفعه الى الطلاق ليرتاح من هذا الكابوس, ويتيتم الأطفال بعد أن تُرَمِّل نفسها كمايعتقد احمد النعسان،ويضيف:إن أشدَّ الآفات فتكاً في الأسرة والمجتمع: سوء الظن,
#فبسوء الظن يُقضى على روح الألفة،
وتُقطع المودَّة,
وتتولَّد الشحناء والبغضاء,
وتنقلب الأسرة والمجتمع إلى جحيم وشقاء.
#وسوء الظن لا يصدر إلا من مرضى القلوب, الذين لا ينظرون إلا بمنظار أسود, فكلُّ إنسان عندهم مُدان ومتَّهم, وكما قالوا: يظنون بالآخرين كما يظنون بأنفسهم.
يظنون أن كل شخص غيرهم سيرتكب الحرام والخيانة بمجرد إن يتمكن من ذلك ويتاح له.

📌سوءالظن يفسد كل شيء في الحياة:
إن سوء الظن يفسد العلاقة الزوجية،
ويفسد علاقة الآباء بالأبناء،
ويفسد علاقة الإخوة فيما بينهم والأخوات فيما بينهن,
ويفسد علاقة المدير بموظفيه، والعكس صحيح أيضاً.
فلنعلِّم نسائنا: أنَّ سوء الظن بشكل عام, و بالزوج خاصةً من قبل الزوجة, كبيرةٌ من الكبائر, وهذه الكبيرة توقع المرأة في كبائر أخرى, منها:
🔹أولاً: بسوء الظن تحتقر المرأة زوجها و احتقار المسلم للمسلم بشكل عام لا يجوز, فكيف بالمرأة التي تحتقر زوجها, وهي تعلم قول سيدنا رسول الله ﴿ ﷺ وآله ﴾لمعاذ بن جبل.
إذ لما قَدِمَ مُعاذٌ مِن الشَّامِ سَجَدَ للنبي ﴿ ﷺ وآله ﴾،
فقال له: «ما هذا يا مُعاذُ؟»
قال: أتيتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُم يسجدونَ لِأَسَاقِفَتِهِم وبَطَارِقَتِهِم، فوَدِدْتُ في نفسي أنْ نَفْعَلَ ذلك بك،
فقال رسولُ اللَّه ﴿ ﷺ وآله ﴾ : «فلا تَفْعَلُوا، فإنِّي لو كنتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسْجُدَ لغيرِ اللَّهِ لأمرتُ المرأةَ أنْ تسجدَ لزوجِهَا، والَّذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ، لا تُؤَدِّي المرأةُ حقَّ ربِّهَا حتَّى تُؤَدِّيَ حقَّ زوجِهَا، ولو سألها نفسَهَا وهي على قَتَبٍ لم تَمْنَعْهُ».[رواه أحمد: (19403)، وابن ماجه (1853) واللفظ له، وابن حبان (4171)، والبيهقي في الكبرى (14711)، عن عبد الله بن أبي أوفى ،وورد في صحيح الجامع برقم: (5295)، وصحيح الترغيب والترهيب برقم: (1938)
🔹ثانياً: بسوء الظن يطول لسان الزوجة على زوجها بالإيذاء له, وكلُّنا يعلم حديث النبي ﴿ ﷺ وآله ﴾, عندما ذُكرت عنده المرأةُ التي تُكثر من الصلاة والصيام, إلا أنها تؤذي جيرانها بلسانها, فقال : “هي في النار” (رواه الإمام أحمد).
هذا إذا كان الإيذاء في حق جيران المرأة, فكيف بمن تؤذي زوجها بلسانها؟
🔹ثالثاً: بسوء الظن تقع المرأة في التجسُّس على زوجها, وتتبُّع عوراته, والنبي ﴿ ﷺ وآله ﴾ حذَّر من هذه الكبيرة بقوله : “يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الإِيمَانُ قَلْبَهُ, لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ, وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ, فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ”(رواه أحمد عن أبي برزة الأسلمي).

📌إذن:
فطوبى للمرأة التي لم تظن سوءا بزوجها سوءاً ولم تؤذه بلسانها ولم تتبع عورته،و استحضرت الوقوف بين يدي الله -عز وجل-, وهي تتذكَّر قول ٲلـلَّـﷻـۂ:
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين)
[المطففين: 4 – 6].
🔹وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) أنهُ قال : خُذْ مِن حُسنِ الظَّنِّ بِطَرَفٍ تُرَوِّحُ بهِ قَلبَكَ و يَرُوحُ بهِ أمرُكَ [بحار الأنوار : 78/209/84].

📌 الخاتمة:
تُظهر هذه الدراسة، في ضوء النصوص القرآنية والنبوية والمصادر التفسيرية والعقلية، أن سوء الظن ليس مجرّد انفعال نفسي أو خطأ عابر في الحكم، بل هو ظاهرة معرفية و أخلاقية ذات أبعاد اجتماعية خطيرة. فهو يقوّض أسس الثقة المتبادلة، ويزعزع البنية الأسرية، ويؤدي إلى خلل في التواصل الإنساني القائم على المودة والاحترام.
ومن خلال التحليل المضمَّن في هذه الحلقة، يتضح أن الخطاب القرآني لم يكتفِ بالنهي عن الظن السيئ بوصفه سلوكًا منحرفًا، بل ربطه بمنظومة متكاملة من القيم الوقائية، كالنهي عن التجسس والغيبة وسوء التأويل. كما أن المنهج النبوي بيّن خطورته العملية في تدمير العلاقات الزوجية والاجتماعية، مؤكّدًا أن الإيمان الحقيقي يتجلّى في سلامة القلب وحسن النية، لا في كثرة الشعائر وحدها.
وعلى المستوى المنهجي، يمكن القول إن معالجة الظن واليقين في ضوء النصوص الشرعية تتيح لنا قراءة معرفية متكاملة لمفهوم التحقق والتثبت في الفكر الإسلامي، بما يسهم في بناء وعي نقدي متوازن يواجه أنماط التفكير الاتهامي والتسرّع في الأحكام.
إن الوعي بهذه القيم لا يقتصر على الجانب الديني فحسب، بل يمتد ليشكّل إطارًا أخلاقيًا ومعرفيًا في العلاقات الإنسانية والإعلامية والاجتماعية المعاصرة، حيث تتسارع الأحكام المسبقة وتضطرب الثقة العامة. ومن هنا تبرز أهمية المقاربة القرآنية النبوية و العقلية في إعادة ترسيخ قيمة اليقين المنهجي في مقابل الظن غير المبرر، بوصفها ضمانة لاستقرار الفرد والأسرة والمجتمع.
وبهذا تختتم هذه السلسلة البحثية، مؤكدةً أن بناء المجتمعات على قاعدة اليقين والعقلانية و حسن الظن، هو الأساس الذي يحفظ التماسك الأخلاقي و الاجتماعي، ويجعل الخطاب القرآني دائم الصلة بالواقع الإنساني المتجدد.انتهى بتوفيق الله.

📚قائمة المراجع:
1.القرآن الكريم.
– الآيات المستشهد بها من سور: الحجرات، المطففين، وغيرها.
2.ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. تحقيق: سامي سلامة. دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، 1999م.
3.الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق: أحمد شاكر. دار هجر، القاهرة، 1992م.
4.السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. دار السلام، الرياض، 2000م.
5.الرازي، فخر الدين. مفاتيح الغيب (التفسير الكبير). دار الفكر، بيروت، 1981م.
6.الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. دار الكتب الإسلامية، طهران، 1986م.
7.الحرّ العاملي، محمد بن الحسن. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1990م.
8.المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983م.
9.ابن حبان، محمد بن حبان البستي. صحيح ابن حبان. تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1993م.
10.ابن ماجه، محمد بن يزيد. سنن ابن ماجه. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر، بيروت، 1985م.
11.البيهقي، أحمد بن الحسين. السنن الكبرى. دار الفكر، بيروت، 1994م.
12.النعسان، أحمد. مقالة: سوء الظن بين الزوجين وأثره في استقرار الأسرة. منشورة في موقع “إسلام ويب”، قسم الفتاوى الأسرية، 2017م.
13.الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. دار المعرفة، بيروت، 2001م.
14.ابن القيم، محمد بن أبي بكر. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. دار الكتاب العربي، بيروت، 1996م.
15.الجرجاني، علي بن محمد. التعريفات. دار الكتاب العربي، بيروت، 2003م.
16.الطه، مصطفى محمود. الظن واليقين في الفكر الإسلامي المعاصر. مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، العدد 22، القاهرة، 2015م.
17.عبد الكريم، نزار. منهج التثبت في القرآن الكريم: دراسة تحليلية موضوعية. مجلة الدراسات القرآنية، جامعة أم القرى، المجلد 9، العدد 3، 2020م.
18.جميل، عائشة. الثقة والظن في العلاقات الاجتماعية من منظور قرآني. المركز الإسلامي للدراسات الاجتماعية، بغداد، 2018م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار