التقاريرالرئيسية

بين الكرامة والقيود: متى يحرر العراقيون أنفسهم؟

بين الكرامة والقيود: متى يحرر العراقيون أنفسهم؟

بقلم/ عدنان صگر الخليفه

​إنَّ التناقضَ الصارخَ الذي يعيشه المجتمعُ العراقيُّ اليوم، بين الرنانةِ من الشعاراتِ التي تطلقُها النُّخبُ السياسيةُ وبين النتائجِ الكارثيةِ على أرضِ الواقع، لم يعد مجردَ أزمةٍ سياسيةٍ، بل تحوَّل إلى أزمةٍ تُعنى بـ الضَّميرِ والعقل. لقد علَّمَنا دينُنا ومنهجُ قُدوتِنا، النبيُّ الأكرمُ وآلُ بيتِه وصحابتُه الأطهار، أنَّ العملَ هو المعيارُ والبرهانُ الأوحدُ للصدق. فالاتباعُ الصادقُ للنهجِ الإلهيِّ لا يكونُ بالادعاءِ اللفظيِّ أو الاكتفاءِ بالانتسابِ، بل بالاقتداءِ العمليِّ في الزهدِ والعدلِ والإخلاص. وحيثُ أنَّ ثمرةَ عملِ القوى التي حاكمتِ العراقَ لأكثرَ من عقدينِ من الزمانِ هي الفسادُ الإداريُّ والماليُّ والأخلاقيُّ، وانهيارُ الخدماتِ، والاستهانةُ بكرامةِ وحياةِ المواطن، فإنَّ هذا الناتجَ هو البرهانُ القاطعُ على أنَّ تلكَ الشعاراتِ كانت محضَ كذبٍ ونفاقٍ، ومجردَ غطاءٍ للتستُّرِ على المصالحِ الشخصيةِ والفئوية.
​إنَّ من يدَّعي الإصلاحَ والتنميةَ والحفاظَ على دماءِ الشهداءِ، وهو يعملُ ضِمنَ منظومةِ المحاصَصةِ التي كرَّستِ الفساد، ثم يتذرَّعُ بعدئذٍ بعدمِ قدرتِه على تحقيقِ برنامجِه، إنما هو شريكٌ أصيلٌ في إنتاجِ هذا الفشل. إنَّ الكذبَ هو العملُ الأساسيُّ لهذه الطبقة، حيثُ تمارسُ عمليةَ تخديرٍ شاملٍ للمجتمعِ بادعاءِ القدرةِ على الإصلاحِ المستقبلي، رغمَ أنهم لم يُصلحوا بلاداً لأكثرَ من عشرينَ عاماً. إنَّ تكرارَ هذه المشاركةِ هو إصرارٌ على تدويرِ الفشلِ وضمانِ استمرارِ النفوذِ والمكتسبات، وهذا التناقضُ السافرُ بين الشعارِ والسلوكِ يجبُ أن يُنبذَ ويُفضحَ. إنَّ الفسادَ الإداريَّ والأخلاقيَّ هو السقفُ الذي يحجُبُ التنميةَ والإعمار؛ فمن يحمي الفسادَ والفاسدين، لا يمكنُ له أن يكونَ أبدًا عنصرًا في بناءِ أو تنميةِ هذا الوطن، بل هو هدّامٌ له.
​هنا، يتحوَّلُ الأمرُ من محاسبةِ النُّخبةِ إلى مساءلةِ الذاتِ والضميرِ الوطنيّ. إنَّ النتيجةَ التي ستفرزُها أيُّ استحقاقٍ انتخابيٍ قادمٍ هي الحكمُ الفاصلُ على إرادتِنا. فمن يقبلُ ويرشحُ ويأتي بتلكَ الأحزابِ لحكمِ العراق، ثم يذهبُ متظاهراً مطالباً بالحقوقِ منها، إنما يرتكبُ خيانةً أخلاقيةً وعقليةً لنفسِه ووطنِه. فمن يبيعُ صوتَه وكرامتَه بـ “حفنةٍ من الدنانير”، يبيعُ بذلكَ عائلتَه ويبيعُ مستقبلَ أبنائِه، ويكونُ قد اختارَ لنفسِه أن يضعَ قيودَ العبوديةِ في عُنُقِه. إنَّ هذه الخيبةَ والإهانةَ ليست مفروضةً علينا، بل هي نتيجةٌ لتقاعسِنا عن الدفاعِ عن أنفسِنا ومقدَّراتِنا.
​لذا، فإنَّ التغييرَ الحقيقيَّ لا يبدأُ بالتظاهرِ في الشوارعِ فحسب، بل يبدأُ في صندوقِ الاقتراع. إنَّ الرفضَ الواعيَ والمدروس، أو التصويتَ البديل، هو التظاهرةُ الصامتةُ الأكثرُ أماناً وتأثيراً التي يملكُها العراقيُّ. إنَّ الامتناعَ عن الإشارةِ إلى الباطلِ بقولِنا “ذاكَ باطلٌ” في ميدانِ الفعلِ (التصويت)، هو ما يُجرِّمُنا. فإما أن نُثبِتَ أننا أنصارُ الحقِّ بتحريرِ أنفسِنا من العبودية، ورفضِنا المطلقِ لإعادةِ إنتاجِ الفساد، وإما أن نرضى بالاستمرارِ في الموافقةِ على القمعِ الذاتي والمتاجرةِ بمستقبلِنا.
​لقد آنَ الأوانُ لأن يشتريَ العراقيونَ أنفسَهم، وينبذوا هذه الأحزابَ التي باعتْ مواطنيها، وأن يدركوا أنَّ الكرامةَ والتحررَ الوطنيَّ والفكريَّ لا يمكنُ أن يولَدَ إلا من رحمِ النزاهةِ الفرديةِ والمسؤوليةِ الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار