بين الظن واليقين: مقاربة قرآنية نبوية وعقلية [1-4]
🔗خصوصية المفردة القرآنية (45)
بقلم: د. رعد هادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي
☆من الاضطراب إلى الاطمئنان
🔹المقدّمة:
يُعدّ الظنّ واليقين من المفردات القرآنية ذات الحمولة الدلالية العميقة، التي تكشف عن البنية النفسية والعقدية للإنسان في علاقته بربّه، وفي فهمه للوجود والمصير.
وقد أفاض القرآن الكريم في عرض مظاهر تحوّل الإنسان من ظلمة الظن إلى نور اليقين، بوصفه مسارًا تربويًّا يعبّر عن انتقال الوعي من الاضطراب إلى الاطمئنان، ومن القلق إلى الثقة المطلقة بالله ﷻ.
ومن خلال تتبّع موارد المفردتين في القرآن الكريم، تتجلّى خصوصية الاستعمال القرآني لهما؛ إذ لا يأتي “الظنّ” إلّا مقرونًا بالاضطراب أو النقص في الإدراك، بينما يرتبط “اليقين” بالطمأنينة والإيمان الراسخ المبني على البصيرة والمعرفة الربانية.
🔹هدف البحث:
يهدف هذا البحث، الذي يمثل الحلقة الخامسة و الأربعين من سلسلة خصوصية المفردة القرآنية، إلى الكشف عن الفروق الدلالية والتربوية بين المفردتين، واستقراء السياقات القرآنية التي تُبرز رحلة الإنسان في تجاوز الشكوك والأوهام نحو نور الهداية و اليقين، مستعينًا بالتحليل اللغوي و النفسي والبياني للنص القرآني.
إنّ هذا المسار من الظن إلى اليقين ليس مجرّد انتقالٍ ذهني، بل هو تحوّل روحي و تربوي عميق، يبيّن أن الإيمان ليس لحظةً واحدةً، بل سيرورة وامتحان، وأنّ رحمة الله ﷻ تتجلّى في لحظات الانكسار قبل الانتصار، كما في قصص الأنبياء وأولي العزم الذين مرّوا بمحنة الظنّ ثم أشرق عليهم نور اليقين.
🔹التحليل اللغوي:
من الناحية اللغوية والمعجمية، وردت مفردة “الظنّ” ومشتقاتها من الجذر (ظ ن ن) في القرآن الكريم نحو ستين موضعًا تقريبًا، تنوّعت بين الفعل الماضي والمضارع والمصدر والاسم، مثل: ظنّ، يظنّون، ظنون، الظانين.
وقد جاءت أغلبها في سياقاتٍ تعبّر عن الشكّ والتردّد والاعتقاد غير الجازم، وأحيانًا في معنى اليقين القلبي المقرون بالرجاء أو الخوف بحسب السياق.
أما مفردة “اليقين” ومشتقاتها من الجذر (ي ق ن)، فقد وردت في القرآن الكريم نحو سبعة مواضع، مثل قوله ﷻ:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
[الحجر: 99]
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}
[الواقعة: 95]
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}
[التكاثر: 5]
وتُظهر هذه المواضع القليلة ندرة المفردة وكثافة دلالتها؛ إذ تقترن دومًا بالمعرفة القطعية وبالحقّ الإلهي الذي لا ريب فيه، ما يعكس المقابلة البلاغية بين “الظنّ” المتقلب و”اليقين” الثابت.
🔹الملاحظة القرآنية
يُلاحظ أن القرآن الكريم يُكثر من ذكر الظنّ لبيان طبيعة الإنسان المحدودة في إدراك الغيب، ويُقلّل من ذكر اليقين ليؤكّد أنه منحة ربانية ونتيجة إيمانية لا تُنال إلّا بالصدق والصبر والتدبّر.
وليست كثرة الشيء دليلا على أهميته في الحياة وغلاء ثمنه، فالخشب والتراب كثيراً رخيصان،والذهب و الألماس قليلان نادران لكنهما نفيسان غاليان.
🔹الخاتمة:
يتّضح من خلال هذا التمهيد أن الفارق بين الظن واليقين في القرآن ليس مجرد تباين لغوي، بل هو تعبير عن مسار روحي ومعرفي في رحلة الإنسان نحو الإيمان الحقّ.
فالظنّ بداية البحث، و اليقين غايته، وما بينهما امتحان القلب والعقل في التعرّف إلى الله ﷻ من خلال آياته الكونية والقرآنية.وسنتحدث عن التفاصيل لاحقاً
🔹يتبع🔹
زر الذهاب إلى الأعلى