الرئيسيةالمقالات

جدلية “التضحية المقدّسة” و”الكنز المباح”: خطاب النخبة والانهيار القيمي

جدلية “التضحية المقدّسة” و”الكنز المباح”: خطاب النخبة والانهيار القيمي

بقلم/ عدنان صگر الخليفه

​يواجه المشهد السياسي العربي المعاصر، وتحديداً في العراق، معضلة بنيوية تتجسد في التناقض الصارخ بين الخطاب الأيديولوجي السائد وسلوك النخبة الحاكمة. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه نبرة المطالبة بـ “الزهد” و”التضحية المطلقة” و”الاستعداد الدائم للفداء” من أجل قضايا عقائدية ومشاريع إقليمية عابرة للحدود، تترسخ طبقة سياسية تستغل هذا الخطاب كساتر للتستر على ثراء فاحش غير مبرر، وتراكم منهجي للثروات عبر قنوات الفساد ونهب المال العام. إن التباين بين من يدعو المواطن لتحمل الفقر باسم “المكاسب الأخروية”، وبين من يتنعمون بمليارات الدولارات والممتلكات الخاصة والمشاريع الاقتصادية التي فاقت الخيال، هو ما نزع عن الخطاب الديني أو الأيديولوجي شرعيته، وحوّله إلى أداة استغلال قاسية تهدف إلى تخدير الوعي وتثبيط المطالبة بالحقوق الدنيوية المشروعة.
​لقد تحول الاستثمار في “تضحيات الماضي” (سواء تضحيات زمن الاضطهاد أو تضحيات مرحلة ما بعد 2003) إلى أداة أساسية في يد هذه النخب. إذ تُستخدم دماء الشهداء وتاريخ المعاناة كـ “بوليصة تأمين سياسية” تمنح القيادات حقاً أبدياً ومطلقاً في الحكم دون مساءلة. وعندما ترفع النخبة شعار “الحفاظ على دماء الشهداء والمكتسبات”، فإنها لا تعني أبداً رعاية عوائل الضحايا أو بناء دولة المؤسسات التي ضحى من أجلها هؤلاء، بل تعني بشكل حصري تأمين استمرار تدفق المنافع والمقاعد السيادية إلى جيوبها وشبكات ولائها. تتحقق “المكتسبات” في نظرهم عندما يُنقل المواطن من صف “المطالب بالخدمات” إلى صف “المضحي الصامت”، ليتمكنوا هم من تحويل المال العام إلى عقارات ومصانع وشركات خاصة.
​ولتعزيز هذا النموذج، تلجأ هذه النخب إلى تصدير نماذج “الخراب المُقدّس”، مُشيدة بالصمود في مناطق أرهقتها الحروب والدمار كجنوب لبنان أو اليمن أو إيران، وتدفع المجتمع باتجاه تقليد هذه النجارب التي قادت إلى انهيار البنية التحتية والمجتمعية، وتعتبر الصمود أمام التدمير هو قمة البطولة الإيمانية، بينما يُنظر إلى الدعوة للاستقرار والتنمية والحياد على أنها “خضوع” أو “تخلٍ عن المشروع”. إن هذا التمجيد لحالة “التأهب الأبدي” يهدف إلى إبقاء المجتمع في حالة يقظة أمنية مستمرة تُلهيه عن المطالبة بالازدهار الاقتصادي والمساءلة السياسية، مما يضمن للنخبة بقاءها، ومما يسمح لها بممارسة النهب تحت غطاء حماية “المكون” أو “المشروع”.
​إن هذه الجدلية المسمومة تكشف حقيقة مرة: وهي أن النخب السياسية المتعددة، ورغم اختلاف مرجعياتها، قد اتفقت ضمناً على الاستثمار في الأزمة وإدامة ثقافة الأضحية، ليس إيماناً بقيمة التضحية ذاتها، بل لأن بقاءها في السلطة وتحقيق ثرائها الفاحش مرهون باستمرار حالة الصراع والاضطراب. إن التحدي الأكبر للمواطن الواعي اليوم هو أن يرفض هذا التعريف المضلل، وأن يعيد البوصلة إلى الأصل: فالمعيار الحقيقي لنجاح أي قيادة وصدق أي مشروع هو جودة حياة المواطن وقدرته على البناء والازدهار والعيش بكرامة في وطن آمن ومستقر، لا قدرته على الموت ببطولة مستمرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار