الديمقراطية المتشوهة في العراق: من واجهة شرعية إلى آلية إخضاع
هذه الرؤية مقدمة من قبل تجمع أهل العراق لشرح الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والجماهيري
إعداد/ عدنان صگر الخليفه
يمثل النظام السياسي في العراق، منذ عام 2003، نموذجاً فريداً ومركباً للديمقراطية المتشوهة. فعلى الرغم من تبني النظام البرلماني التعددي وإجراء استحقاقات انتخابية دورية، يشير واقع الممارسة إلى هوة سحيقة بين الخطاب الديمقراطي والآلية الفعلية للحكم. لقد غدت العملية الانتخابية مجرد واجهة شرعية يُعاد بموجبها ترسيخ نظام المحاصصة الحزبية، الذي يهدف في جوهره إلى مصادرة إرادة الناخبين. وتتعمّد النخبة الحاكمة اختزال تعريف الديمقراطية في مفاهيم انتقائية، كالتعبير اللفظي المسموح به والكشف الجزئي عن التفاصيل المالية، وهي إجراءات لا تتجاوز حدود “التنفيس” المُتحكَّم به للغضب الشعبي، دون أن تمس جوهر آليات السلطة أو تحقق “التغيير” المنشود. وفي المقابل، يتم تفريغ المفهوم الحقوقي للديمقراطية عبر ممارسات قمعية تباين جوهرها، أبرزها سلاح “الإرهاب القانوني”؛ حيث تُستخدم مئات الدعاوى القضائية الكيدية من قِبل المسؤولين ضد المدونين والمحللين، مما يحوّل حرية التعبير إلى عبء قضائي ومالي، بهدف واضح هو تكميم الأفواه وردع أي نقد فعال. يضاف إلى ذلك التعامل المفرط بالقمع والتهديد بالتغييب والقتل مع التظاهرات السلمية المطالبة بالحقوق، وإلصاق أوصاف تجرّد المعارضين من شرعيتهم كـ “الإرهاب” أو “البعثية”.
إن الاستحقاقات البرلمانية بحد ذاتها هي المعيار الأقوى على تشوّه النظام؛ فالانتخابات ليست قوة دافعة للاختيار الحر، بل هي آلية لـ إعادة توزيع النفوذ عبر إحصاء للحصص بين الأحزاب المُهيمنة. وقد أثبتت التجارب المتلاحقة أن المنصب التنفيذي الأبرز، وهو رئاسة مجلس الوزراء، غالباً ما يتم اختياره عبر التسوية والتوافق الحزبي، متجاوزاً صناديق الاقتراع، أو يتم ترشيح أشخاص ذوي ثقل انتخابي فردي ضئيل. هذا الاختيار يضمن أن يكون القائد التنفيذي أكثر انصياعاً لإرادة الكتل التي أوصلته، لا لإرادة الناخبين. ويؤكد هذا المسار ثبات مبدأ المحاصصة المكوناتية والحزبية، بغض النظر عن المقاعد التي تحصل عليها الكتل. بل إن الأحزاب التي تتراجع نتائجها إلى أدنى مستوياتها تصرّ على البقاء في مفاوضات تشكيل السلطة بحجة امتلاكها “الثقل السياسي”؛ وهو ليس قبولاً جماهيرياً، بقدر ما هو نفوذ مُتغلغل في مفاصل الدولة والقدرة على تعطيل العملية السياسية، مما يرغم الكتل الكبرى على إبقائها ضمن منظومة التوافق للحفاظ على الاستقرار الهش.
ولا يمكن تجاهل أن أحد الأركان الجوهرية لاستدامة هذا النظام المُتشوه هو الدعم والشرعنة التي يتلقاها من المجتمع الدولي والقوى الإقليمية. هذا الدعم ليس نابعاً من جهل بطبيعة النظام، بل هو محصلة لـ تقاطع مصالح ترى في المحاصصة وسيلة عملية لتحقيق أهدافها؛ فبالنسبة للقوى الدولية، تظل الأولوية القصوى هي ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الوظيفي وتفادي الانهيار الشامل، ويُعدّ نظام المحاصصة “الخيار الأفضل المتاح” لأنه يضمن عدم إقصاء أي مكون رئيسي. كما أن القوى المؤسسة للنظام بحاجة ماسّة إلى إثبات نجاح مشروعها في بناء نظام بديل، ووجود الانتخابات يوفر الغطاء الرمزي لهذه الشرعية، ليصبح دعم النظام توافقاً عملياً متعدد الأطراف تتقاطع فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية في الإبقاء على الوضع الراهن.
وفي الختام، تُظهر هذه المقالة بوضوح أن النظام السياسي العراقي هو نظام محاصصة توافقي يستخدم الديمقراطية كواجهة لإعادة إنتاج ذات النخب والكتل دورياً. إن تصوير الشعب العراقي بأنه خانع أو راضٍ بهذا النظام هو صورة نمطية مغلوطة. فقد أعلن الشعب رفضه هذا النظام فعلياً من خلال ثورات الاحتجاج والتظاهر المتكررة والمقاطعة الواسعة للانتخابات التي انخفضت فيها نسبة المشاركة إلى مستويات متدنية. إن عدم قدرة الشعب على إحداث التغيير الجذري ليس دليلاً على خنوعه، بل هو دليل على قوة الإخضاع المفروضة عليه من تحالف القوى الداخلية المُهيمنة، المدعوم بـ الحماية والشرعنة الدولية والإقليمية. هذا النظام لم يكن نتاجاً لإرادة الشعب، بل نتيجة لإرادة القوى التي فرضته وحافظت على بقائه.
زر الذهاب إلى الأعلى