الشركة العامة للنقل: صراع بين ضمير المهندس ونفوذ المتملق
25/أيلول 2025
بقلم/ عدنان صگر الخليفه
الشركة العامة لنقل المسافرين والوفود، التي حملت في الماضي اسم مصلحة نقل الركاب، ليست مجرد مؤسسة حكومية؛ بل هي أيقونة عراقية وتاريخ محترم من الريادة في النقل الجماعي بالمنطقة. فبغداد، ومنذ زمن الوالي مدحت باشا وخط الترامواي الذي سبقه، كانت سبّاقة في تنظيم حركة الناس، ووصل هذا العز إلى ذروته مع دخول “الباص الأحمر” الذي بات رمزاً للانضباط الحضاري. لكن هذا التاريخ الراقي، الذي يفتخر به كل عراقي، يواجه اليوم حاضراً لا نجد له كلمة تصف سوءه، إنه تدهور ليس عارضاً، بل نتيجة ممنهجة لقرار إداري وسياسي، حوّل المؤسسة من قاطرة خدمة إلى هيكل صدئ يحميه التواطؤ.
التدهور لم يكن وليد اللحظة بعد عام 2003، بل بدأ يتسارع بشكل مخيف في فترة ما بعد عام 2010. الإدارات القديرة التي كانت تدير هذا الصرح بدأت تنحسر، وحل محلها من لا يمتلكون خبرة ولا كفاءة، ليُصبح العمل محكوماً بـ “مروجي وماسحي الأكتاف”، بينما وُضعت الكفاءات المخلصة والمهندسون في “الأدراج” أو تحت طائلة العقوبات. هذا الانقلاب الإداري لم يقتل الخدمة فحسب، بل قتل الذاكرة المؤسسية وقدرة الشركة على الصمود. لقد أثبت منتسبو الشركة ولائهم للوطن خلال الأزمات الصعبة، من نقل النازحين إلى دعم الجبهات، لكن عملهم الرائد تحول تحت وطأة الإدارة الجديدة إلى “فرض يسقط” بلا شغف أو تقدير، لأن كل من يرفع رأسه مطالباً بالنهوض أو بحقوقه يُقابل بـ “سلاح السلطة” وقمع إداري ممنهج.
هذا القمع لم يكن وليد عشوائية، بل جاء كغطاء ضروري لحماية ملفات أعمق وأخطر. ففي صفقات استيراد الأساطيل الحديثة ما بعد عام 2012، ظهرت “شوائب كثيرة” كانت معلومة لدى أعلى المستويات في الوزارة والإدارة. ولتلافي هذه الصفقات المشوبة وإخراجها من دائرة المساءلة، قامت الإدارة بـ “تجميد” هذه الحافلات لفترة طويلة، ثم زجّها في العمل بطرق احترافية في نهاية عام 2018. هذا التلاعب لم يكن لغرض التشغيل الفعال، بل كان بمثابة تغطية مُحكمة لتحويل المسؤولية عن فساد الصفقة إلى مشكلة تشغيلية أو تقادم، لتجنب المحاسبة.
هذا السلوك يفسر سر استمرارية الإدارة الحالية التي تعاقبت على الشركة بعد 2018 رغم كل التدهور والخسائر. إن بقاءها ليس مكافأة على نجاح، بل هو حماية لمنظومة فساد تغلغلت في صفقات التجهيز. فـ الشركة العامة لنقل المسافرين والوفود تحولت إلى ما يشبه “إقطاعية عائلية” لا تسمح لأي خبرة حقيقية بالتصدر، لأن الهدف الأساسي أصبح الحفاظ على النفوذ وحماية الأسرار، لا خدمة المواطن. إن هذا “المحترم” يستحق أن يعود إلى ريادته، ولكي يتحقق ذلك، يجب أن يصدح “الرعد” بكشف هذه الحقائق، لأن إنقاذ المؤسسة لن يتم إلا بكسر “جدار الحماية” عن الإدارة التي دمرتها، وإعادة الكفاءة إلى موقع القيادة.
زر الذهاب إلى الأعلى