الرئيسيةالمقالات

الأبوذية: عندما ينزف الشعر وجعا.

الأبوذية: عندما ينزف الشعر وجعا.

بقلم/ عدنان صگر الخليفه

​الأبوذية، ذلك الفن الشعري العراقي المتجذر في تربة الجنوب، لم يكن يوماً مجرد كلمات تُنشد للعتاب أو الغزل. بل هو مرآة عاكسة لواقع الشعب، وناقلة لهمومه وآلامه. ففي أبيات قليلة، يختزل الشاعر أوجاعاً لا يمكن التعبير عنها في مجلدات. ومن بين هذه الأبيات، تبرز أبوذية خالدة تنزف ألماً، وتحكي قصة شعب مع حكوماته التي تعاقبت على حكمه منذ عام 2003، وهي:
​علامك لاومي يردك ولانده
وجفيت ولا عرك خدك ولانده
عرفت البالهند ساكن ولانده
وانا جارك تضيع العرف بيه
​في الشطرين الأولين، يكمن العتب المباشر. “علامك لاومي يردك ولانده؟” هو سؤال يطرحه المواطن العراقي على حكومته: لماذا لا تستمع لنداءاتنا؟ لماذا لا تستجيب لمعاناتنا؟ هذا السؤال يتردد صداه في كل شارع ومنزل يعاني من انقطاع الكهرباء، أو تلوث المياه، أو غياب الرعاية الصحية والتعليم. ويتعمق الألم في “وجفيت ولا عرك خدك ولانده”، فالحاكم لا يكتفي بالجفاء، بل يمارسه بدم بارد، دون أي شعور بالندم أو الخجل. إنها صورة مؤلمة لانعدام المسؤولية، حيث يرى المواطن حكومته تتجاهل انهيار الخدمات، وتغض الطرف عن الفساد المستشري، وتتصرف وكأنها غير معنية بما يجري على أرض الواقع.
​يصل الشعر إلى قمة الألم في الشطر الثالث “عرفت البالهند ساكن ولانده”. هنا، يربط الشاعر ببراعة بين العتاب الشخصي والواقع السياسي. فبينما يعجز المواطن العراقي عن توفير أبسط متطلبات الحياة، تواصل الحكومات المتعاقبة تقديم المساعدات السخية للدول الأخرى. إن ذكر الهند ولندن ليس مقصوداً بذاتهما، بل هما رمزان لكل الدول التي يتبرع لها العراق، سواء كانت إقليمية أو عالمية. فالدواء الذي لا يتوفر في المستشفيات الحكومية، يُتبرع به بعشرات الأطنان لدول الجوار. والمحاصيل الزراعية التي عانى الفلاحون في إنتاجها في ظل أزمة المياه، تُهدى للآخرين، في حين يفتقر العراق لمخزون استراتيجي يحميه من أي أزمة غذائية. لقد أصبحت الدول البعيدة أولى بالاهتمام من الشعب القريب.
​في الشطر الأخير “وانا جارك تضيع العرف بيه”، تكتمل الصورة. فالمواطن هو الأقرب، هو الجار الذي يفترض أن يكون أولى بالمعروف والاهتمام. لكن هذا “العرف” ضاع. ضاع وسط صراعات سياسية، وفساد مستشرٍ، وتجاهل متعمد لتضحيات ودماء أبنائه التي سالت منذ عام 2003. هذه الأبوذية ليست مجرد قصيدة، بل هي صرخة مكتومة، وفاتحة لمقالة لا تصف الواقع فحسب، بل تحمله إلى العالمية لتكون شاهداً على واقع شعب عانى الأمرين من حكومات فضلت البعيد على القريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار