التقاريرالرئيسية

​العراق: “سُنة” الفساد وخيانة الأمانة.. لماذا أصبح التغيير سرابا؟

​العراق: “سُنة” الفساد وخيانة الأمانة.. لماذا أصبح التغيير سرابا؟

16/ايلول/2025

بقلم/ عدنان صگر الخليفه

​منذ فجر التاريخ، كانت قيم الصدق والأمانة والوفاء بالوعد هي الأساس الذي تُبنى عليه المجتمعات السليمة. هذه القيم ليست مجرد أعراف اجتماعية، بل هي جوهر التعاليم الدينية التي جاء بها الأنبياء لإرساء العدل بين الناس. ويصفها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حديثين شريفين، الأول يضع معيارا أخلاقيا دقيقا بقوله: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. والثاني يحذّر من عواقب الإفساد بقوله: “من سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”. في العراق، بعد عام 2003، لم تعد هذه الأحاديث مجرد نصوص تُتلى، بل أصبحت مرآة صادقة تعكس واقعًا سياسيا مُرًا، حيث غابت الأمانة وحلّت مكانها “سُنة” الفساد التي جعلت التغيير مجرد وهم.
​لقد اعتاد المواطن العراقي، على مدى عقدين من الزمن، على سماع وعود براقة من قِبل السياسيين، خاصة أولئك الذين ادعوا أنهم يمثلون مرجعية دينية وإصلاحية. في كل دورة انتخابية، تتكرر نفس الوعود: القضاء على الفساد، توفير الخدمات الأساسية من كهرباء وماء، بناء البنية التحتية، وخلق فرص عمل. ولكن، ما إن تنتهي الانتخابات وتُشكل الحكومات، حتى يتبخر كل هذا الكلام. فشلٌ متكرر في تحقيق الوعود، وخدماتٌ متدهورة، وبطالةٌ متزايدة، ومشاريع وهمية لا وجود لها إلا على الورق. هذا الإخلاف الممنهج للوعود لم يكن خطأً عابرًا، بل أصبح سلوكًا سياسيًا ثابتًا، مما أدى إلى فقدان ثقة المواطنين بشكل كامل. تزداد خطورة الأمر عندما يأتي من يدّعي أنه يعمل تحت مظلة الإسلام ليمارس الفساد. فالأحزاب التي قادت العراق منذ عام 2003، وغالبيتها ذات مرجعية إسلامية، كانت مؤتمنة على ثروات البلاد ومصالح الشعب. لكن، الواقع أظهر أن هذه الأمانة قد تم خيانتها على نطاق واسع. لم يقتصر الأمر على سرقة المال العام، بل تجاوز ذلك إلى بناء نظام كامل يعتمد على الفساد والمحاصصة. التقارير الدولية والمحلية تؤكد أن مليارات الدولارات من ثروة العراق قد تبخرت في صفقات مشبوهة وعقود وهمية. هذه الخيانة لم تكن فردية، بل أصبحت جزءًا من هيكلية الحكم، مما أثّر على كل جوانب حياة العراقيين وأدى إلى تدهور الخدمات وتراجع التنمية.
​إن الأثر الأعمق لما حدث لا يكمن في الفساد نفسه، بل في “السُنة السيئة” التي أرسى دعائمها أولئك الذين قادوا العراق. لقد تم سنّ قوانين وتشريعات تضمن استمرار الفساد، مثل قوانين المحاصصة الطائفية التي تكرس تقسيم المناصب على أساس الولاءات الحزبية بدلاً من الكفاءة، مما سمح بوضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب. هذه القوانين والممارسات السيئة أصبحت ثقافة عامة في الدولة، يتبعها كل من يصل إلى السلطة. وهكذا، فإن كل مسؤول يقتدي بهذه السنة ويستفيد من هذا النظام الفاسد، فإن وزر أفعاله يعود على من سنّ هذه الممارسات في البداية. وإضافة إلى ذلك، فقد عملت هذه الطبقة السياسية على تجهيل المجتمع وتدمير منظومته التعليمية، وذلك من خلال إهمال المدارس والجامعات، وإضعاف المناهج الدراسية، مما ساهم في خلق بيئة لا تُشجع على التفكير النقدي والوعي السياسي. هذا التجهيل الممنهج يخدم مصالح هذه الأحزاب، لأنه يضمن بقاء المواطن غير قادر على فهم الحقائق، وبالتالي يسهل السيطرة عليه وإقناعه بالشعارات الفارغة، مما يجعل التغيير يبدو مستحيلاً، لأن النظام القائم يحمي نفسه بنفسه، ويقاوم أي إصلاح قد يهدد مصالح المتحكمين فيه.
​في ظل هذه الحقائق، يصبح ادعاء التغيير من قبل نفس الأحزاب والسياسيين الذين شاركوا في تأسيس هذا النظام الفاسد مجرد كذب مكشوف. لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي دون تفكيك هذه “السُنة السيئة” من جذورها، وإعادة بناء المؤسسات على أساس الأمانة والصدق والوفاء. إن المشكلة ليست في الأشخاص فقط، بل في النظام الذي أنتج هؤلاء الأشخاص. وإذا لم يتمكن الشعب من تغيير هذا النظام الفاسد، فإن أي محاولة لإصلاحٍ جزئي ستكون مجرد سراب في صحراء الفساد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار