
وجوه أخرى من مكر بني إسرائيل في قصص القرآن
بشير ربيع الصانع
لا يقف تاريخ بني إسرائيل عند حدود العناد والتمرد على موسى عليه السلام فحسب، بل إن القرآن الكريم قصّ علينا صورًا كثيرة تكشف طبيعتهم في الغدر والتحايل والكذب على الله ورسله. فقد ابتلاهم الله بقصة أصحاب السبت، حيث حُرّم عليهم الصيد يوم السبت اختبارًا لطاعتهم، فتحايلوا على أمر الله بأن نصبوا شباكهم يوم الجمعة لتقع فيها الأسماك يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، وظنوا أنهم بذلك قد نالوا مرادهم وخدعوا ربهم.
فجاء العقاب الإلهي حاسمًا قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِـمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فكان المسخ عقوبة رادعة تكشف أن المكر والخداع لا ينجي صاحبه من عذاب الله، وأن بني إسرائيل جعلوا الاحتيال ديدنًا لهم بدل التسليم والانقياد.
ولم يقف مكرهم عند حد التحايل، بل تجاوزوه إلى الجرأة على مقام الله جل وعلا فقالوا كلمة الكفر: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وهذه الآية تكشف مدى وقاحتهم في الطعن بجلال الله سبحانه، حتى جمعوا بين الكفر الصريح والجرأة على خالقهم. وما ذلك إلا لأن حب المال والمادية سيطر على قلوبهم فأعماها عن الحق، فجعلهم يستبدلون نعمة الإيمان بوهم الغنى والاستكبار.
كما وصفهم الله في كتابه بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، وقد جاء فيهم قوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}
فقد عرفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم، ورأوا دلائل نبوته واضحة في كتبهم، لكن الحسد أعماهم لأنه لم يكن منهم، فأنكروا رسالته وحاربوه. وهذا يبين أن عداءهم للإسلام لم يكن وليد خلاف سياسي أو نزاع مصالح، بل هو جذور عقائدية ممتدة من الغيرة والحسد والكبر.
ولم يسلم من بهتانهم حتى الأطهار من نساء، فقد رموها بالبهتان العظيم، واتهموا مريم العذراء عليها السلام بما برأها الله منه، فجاء القرآن شاهدًا ببراءتها وطهارتها. قال تعالى:
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}
فكان ذلك برهانًا على أن ألسنتهم اعتادت الافتراء والكذب، حتى على أطهر نساء العالمين. ولم يتوقف مكرهم عند الافتراء، بل امتد إلى محاولة قتل عيسى عليه السلام، وظنوا أنهم صلبوه، لكن الله سبحانه قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}، فبقيت هذه الحادثة شاهدًا خالدًا على خيانتهم وعدوانهم على أنبياء الله، وأن الله تعالى لا يترك أنبياءه لأيدي المجرمين مهما مكروا.
ومن وجوه مكرهم أنهم كانوا إذا دعوا إلى حكم الله أعرضوا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ولّى أكثرهم مدبرين، وقالوا:{لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}، ففضحهم الله بقوله:
{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، لقد جعلوا الدين ألعوبة بأيديهم، فاختزلوا العقاب في أيام محدودة، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فأبطل الله مزاعمهم وأكد أنهم كسائر البشر يُجازون بأعمالهم.
ثم بيّن الله حقيقتهم بقوله:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}
فهي قلوب مغلقة عن الهداية، قاسية أشد من الحجارة، لا تلين للحق مهما تتابعت عليهم البينات، بل يعيشون في ضلال مبين ويقودون غيرهم إليه بمكر ودهاء.
إن هذه المواقف كلها تكشف أن قصص القرآن عن بني إسرائيل ليست مجرد أحداث تاريخية وقعت في زمن بعيد، بل هي سنن متكررة تتجلى في واقعنا الحاضر. فكما خانوا عهودهم مع موسى وعيسى خانوا عهودهم مع العرب والمسلمين، وكما افتروا على مريم افتروا على الشعوب المظلومة، وكما سعوا في الأرض فسادًا بالتحايل والغدر يسعون اليوم تحت راية الصهيونية بالاحتلال والتشريد. إنها نفس الجذور القديمة التي ما زالت حاضرة، لتثبت أن طبيعتهم لم ولن تتغير، وأن عنادهم ومكرهم لن يزول إلا بزوالهم.
وقد أخبر الله تعالى أن عاقبتهم معلومة، وأنهم مهما بلغوا من المكر فلن يفلتوا من سنته الجارية في الظالمين، فقال سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وهذه الآية تلخص مصيرهم الأبدي، فكما حُرموا من بركات الطاعة في الدنيا، فإنهم يلقون في الآخرة عذابًا مقيمًا لا مفرّ منه.
إن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وكلما تجبّروا أرسل الله من يسومهم سوء العذاب، كما قال جل شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وهكذا نرى أن مشروعهم الصهيوني اليوم ليس سوى حلقة من حلقات الصراع الممتد عبر التاريخ، وأن زوالهم آتٍ لا محالة، لأن وعد الله حق، ولأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.



