صراع العقل في المجتمعات الإسلامية المعاصرة: من المبدأ المطلق إلى الواقع العملي
إعداد/ الكاتب والباحث/ عدنان صگر الخليفه
مقدمة
يواجه الفكر الإسلامي المعاصر تناقضاً جوهرياً بين المبادئ الشرعية والأخلاقية المطلقة من جهة، والواقع السياسي والاجتماعي المعقد من جهة أخرى. هذا التناقض أفرز صراعاً عميقاً بين نوعين من التفكير: العقل المطلق الذي يتمسك بالقيم الأساسية والثابتة التي أودعها الله في فطرة الإنسان وشرائعه، والعقل العملي الذي يتكيف مع الظروف المتغيرة وموازين القوى. إن إشكالية هذا البحث تتجلى في دراسة كيف أدى هذا الصراع إلى نتائج سلبية على المستويات السياسية والاجتماعية في الدول التي تدعي التمسك بالمرجعية الدينية، وكيف يمكن إيجاد سبيل للخروج من هذا المأزق عبر إقامة دولة مدنية تحترم كلا النوعين من العقل، وتوازن بينهما بما يخدم الإنسان والمجتمع.
التأصيل الفلسفي لصراع العقل
إن التمييز بين العقل المطلق والعقل العملي هو أساس فهم هذا الصراع. فالعقل المطلق هو أداة الإدراك التي تعمل وفق منظومة قيمية ثابتة لا تتغير، مرجعها الأول هو الوحي الإلهي والفطرة السليمة. هذا العقل يحكم على القضايا بالحق أو الباطل، بالعدل أو الظلم، بشكل قاطع لا يقبل المساومة. أما العقل العملي، فهو الأداة التي تستخدم لتحليل الواقع، وحسابات المنفعة والمضرة، واتخاذ القرارات بناءً على الظروف القائمة والممكنة. هذا التمييز يضع فرقاً دقيقاً بين القناعة والخضوع. فالقناعة التي يولدها العقل المطلق هي إيمان راسخ بالمبدأ، أما القناعة الناتجة عن العقل العملي قد تكون مجرد رضا بالواقع المفروض. وهنا، يتحول الخضوع للواقع إلى قناعة زائفة، يُبرر بها التنازل عن الحق بدعوى الواقعية. هذا ما يفسر كيف يمكن أن يرى العقل المطلق قبول حل الدولتين في القضية الفلسطينية كخنوع، بينما يراه العقل العملي كخيار براغماتي لا مفر منه.
انعكاس الصراع على السياسة والدولة
مع تطور مفهوم “الدولة” في العصور الإسلامية اللاحقة، بدأ هذا الصراع يتجسد في ممارسات الحكم. فبينما كانت السياسة في العصور المبكرة تستند إلى العقل المطلق الذي يسعى لتحقيق العدل الكامل، تحولت في العصور اللاحقة إلى منهج يفضل العقل العملي. أصبح الحكام يعتمدون على “سياسة الدولة” التي تُدار بمنطق المنفعة وتوازن القوى، وأحياناً تُقحم الشعارات الدينية لتغطية هذا التوجه. هذا ما أدى إلى تشكيل أنظمة سياسية ترى أن وظيفتها الأساسية هي الحفاظ على استقرارها ووجودها، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ المطلقة التي تدعي التمسك بها.
الشعارات والممارسات الدينية كأداة للتلاعب
يظهر هذا الصراع بشكل جلي في الخطاب الديني المعاصر. فبعض علماء الدين والقادة السياسيين يختارون استخدام لغة العقل المطلق المتمثلة في شعارات مقدسة، مثل شعار الإمام الحسين: “لم أخرج أشراً ولا بطراً ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”. هذا الشعار، الذي يمثل قمة التمسك بالمبدأ، يُرفع أمام الجماهير لإثارة مشاعرها وتذكيرها بأهمية الحق والعدل. لكن في الممارسة العملية، قد يتم استخدام هذا الشعار لتبرير سلوكيات لا تمت إليه بصلة. ففي حين أن الشعار يدعو إلى الإصلاح والثورة على الظلم، فإن الأفعال قد تكون قائمة على السكوت عن الفساد، وممارسة الذلة، والبحث عن المكاسب الشخصية. هذا التناقض يحول الشعارات من محرك للتغيير إلى أداة للتلاعب العاطفي، ويهدف إلى إيهام الناس بأن الخضوع للواقع هو بحد ذاته تمسك بالمبدأ.
دراسة حالة: العراق بعد 2003
تُعد تجربة العراق بعد عام 2003 دراسة حالة مثالية لتجسيد هذا الصراع. فبعد سقوط النظام السابق، أتيحت حرية واسعة لإحياء الشعائر الحسينية، مما أدى إلى انتشارها بشكل غير مسبوق. إلا أن هذا الإحياء كان في معظمه إحياءً شكلياً ومكانياً، يركز على المظاهر والطقوس، بينما غاب الإحياء الفكري لمبادئ الثورة. تحولت الشعائر من وسيلة لإذكاء روح المقاومة إلى وسيلة لإحداث ما يمكن وصفه بـ “إغماء عقلي” للمجتمع. فبدلاً من أن تدفع هذه الشعائر الناس إلى مواجهة الفساد الذي ساد البلاد، ساهمت في تخدير العقل المبدئي وحصره في إطار عاطفي. وهذا ما أدى إلى وصول الشعب العراقي إلى ما هو عليه الآن، حيث أصبح الإحياء الشكلي للثورة أداة يستخدمها النظام السياسي نفسه للحفاظ على سلطته، متجاوزاً بذلك مبادئ الثورة التي قامت على رفض الفساد.
نحو نموذج للدولة المدنية: لتحقيق الانسجام بين العقل المطلق والعقل العملي
للتغلب على هذا الصراع، يتوجب الانتقال من مرحلة النقد إلى مرحلة البناء، وذلك عبر اقتراح نموذج لدولة مدنية تحقق الانسجام بين العقل المطلق والعقل العملي. هذا النموذج يقوم على تجزئة الواقع السياسي، بحيث تُعالج كل قضية على انفراد بمنطقها الخاص. فالقضايا الاقتصادية تُدار بعقل اقتصادي، بينما تُحمى الحقوق والحريات بعقل أخلاقي وقيمي. وتمنح هذه الدولة الفرد حرية التامة في ممارسة قناعاته وشعائره دون إكراه، مما يمنع استخدام هذه الشعائر كأداة للتلاعب، ويمنع الإغماء العقلي. وفي هذا النموذج، يعاد الاعتبار للمسؤولية الفردية، بحيث يكون المواطن مسؤولاً عن اختياراته أمام الله، فلا يمكنه أن يتعلل بأنه كان مسيراً. هذا يعيد للفرد دوره كصانع قرار حر، ويعيد للعبادة معناها الحقيقي كخضوع واعٍ لإرادة الخالق، لا لتوجهات قادة أو جماعات
زر الذهاب إلى الأعلى