التقاريرالرئيسية

الأُسس المدنية للرسالة المحمدية: العقد الاجتماعي بين النظرية الغربية والواقع العراقي

الأُسس المدنية للرسالة المحمدية: العقد الاجتماعي بين النظرية الغربية والواقع العراقي

إعداد/ الكاتب والباحث/ عدنان صگر الخليفه

المقدمة :
تُعدّ فكرة الدولة والمجتمع المنظم من أكثر القضايا إلحاحًا في الفلسفة السياسية، فبينما نشأت نظرية العقد الاجتماعي في الفكر الغربي كحلّ للخروج من “حالة الطبيعة” الفوضوية، قدمت الرسالة المحمدية مشروعًا مدنيًا متكاملًا أسس لمجتمع جديد لا يقوم على العصبية القبلية بل على الأخلاق والمساواة، قبل أن يترجم ذلك في المدينة المنورة إلى وثيقة سياسية ودستور ينظم العلاقات بين جميع مكونات المجتمع. وفي ظل التحديات المعاصرة التي تواجهها المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة مثل العراق، يكتسب هذا الموضوع أهمية بالغة. ولذلك، يسعى هذا البحث إلى تقديم إطار تحليلي لهذه القضية من خلال معالجة التساؤلات الرئيسية التي تدور حول العلاقة بين الأُسس المدنية الإسلامية والنظريات السياسية والاقتصادية الغربية، وتحديات تطبيقها في العراق. وتفترض هذه الدراسة أن تطبيق نموذج الدولة المدنية يواجه تحديات كبيرة بسبب طبيعة العقد الاجتماعي الإسلامي التاريخي وتعدد الولاءات، ولكنه يمثل الحل الأكثر عملية لضمان الاستقرار والتعددية.
الفصل الأول: الأُسس النظرية السياسية: العقد الاجتماعي، الليبرالية، والعلمانية
يُشكّل الفكر السياسي الحديث في الغرب نقطة انطلاق ضرورية لفهم المفاهيم التي تدور حولها هذه الدراسة. ففي هذا الإطار، تُعدّ نظرية العقد الاجتماعي من أبرز المحاولات الفلسفية لتبرير وجود الدولة، حيث تباينت رؤى الفلاسفة حول طبيعة هذا العقد؛ فبينما رأى توماس هوبز أنه تنازل مطلق عن الحقوق مقابل الأمن، قدم جون لوك رؤية أكثر تفاؤلًا اعتبرت أن العقد يهدف إلى حماية الحقوق الطبيعية. وفي المقابل، تُعد الليبرالية الفلسفة السياسية الأوسع التي تضع حرية الفرد في صدارة قيمها، وتدافع عن حقوقه وحرياته الأساسية، وتقوم على مبدأي حكم القانون والحكومة المحدودة. أما العلمانية فهي آلية سياسية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسات الدينية، هدفها ضمان حياد الدولة وعدم انحيازها لأي دين. هذه المفاهيم، التي تقوم على مبدأ أن سلطة الدولة مصدرها الشعب، تشكل نقطة مرجعية مهمة لمقارنتها مع الأُسس المدنية التي أرساها النبي محمد في الإسلام.
الفصل الثاني: الأُسس النظرية الاقتصادية: الرأسمالية والاشتراكية
إن النقاش حول طبيعة الدولة والمجتمع لا يكتمل دون تناول نظامها الاقتصادي، الذي يحدد كيفية توزيع الموارد والثروة بين أفراد المجتمع. وفي الفكر الغربي الحديث، تبرز نظريتان رئيسيتان في هذا السياق: الرأسمالية والاشتراكية. تُعد الرأسمالية فلسفة اقتصادية تقوم على مبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والسوق الحر الذي تنظمه قوى العرض والطلب. وترتبط الرأسمالية ارتباطًا وثيقًا بالليبرالية، حيث يرى منظروها أن الحرية الاقتصادية جزء لا يتجزأ من الحرية السياسية. أما الاشتراكية فهي نظام اجتماعي واقتصادي نشأ كرد فعل على التناقضات والفوارق الطبقية التي خلقتها الرأسمالية الصناعية. وتقوم على مبادئ الملكية العامة أو الجماعية لوسائل الإنتاج، وتهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. هذا التباين في النظرة يوضح أن النقاش حول الدولة الحديثة هو أيضًا نقاش عميق حول الدور المناسب للفرد والمجتمع في النظام الاقتصادي.
الفصل الثالث: الأُسس المدنية للرسالة المحمدية: العقد الاجتماعي والتوازن الاقتصادي
يُظهر التحليل السابق أن الأفكار السياسية والاقتصادية في الفكر الغربي قامت على أسس تباينت بين الفردية المطلقة في الليبرالية الرأسمالية، والجماعية في الفكر الاشتراكي. وفي المقابل، قدمت الرسالة المحمدية مشروعًا مدنيًا متكاملًا تجاوز هذا الانقسام الثنائي، وأسست لمجتمع منظم سياسيًا واقتصاديًا منذ بدايتها. ففي المرحلة المكية، تم التركيز على بناء الفرد والأخلاق كقواعد أساسية للمجتمع، وذلك عبر الدعوة إلى التوحيد كمبدأ للمساواة، وإصلاح العادات الجاهلية، وغرس القيم الأخلاقية التي شكلت اللبنات الأولى للمجتمع المدني. ثم انتقل المشروع إلى المرحلة المدنية، حيث تم تأسيس الدولة والمجتمع بشكل فعلي من خلال تحويل الولاء من العصبية القبلية إلى الأمة، وتجسد ذلك في وثيقة المدينة التي مثّلت أول عقد سياسي ينظم العلاقات بين مكونات المجتمع المتعددة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أسس الإسلام لنموذج فريد يوازن بين الملكية الفردية والمسؤولية الاجتماعية. فبينما أقرّ مبدأ الملكية الخاصة، فرض عليها قيودًا تضمن التكافل الاجتماعي وتمنع تكديس الثروة، وتُعد الزكاة أحد أهم الفروقات بين النموذج الإسلامي والرأسمالية.
الفصل الرابع: تحديات التطبيق في الواقع العراقي
إن الانتقال من الجانب النظري إلى الواقع العملي يكشف عن تحديات كبيرة تواجه أي محاولة لتطبيق مفاهيم الدولة الحديثة في سياق مثل العراق. فتحديات بناء “الدولة المدنية”، التي تُعرَّف على أنها دولة يحكمها القانون والمؤسسات بعيدًا عن الحكم الديني أو القبلي، تتمثل في تأثير الانقسامات الطائفية والإثنية التي غالبًا ما تتقدم على الولاء الوطني. هذا يؤدي إلى ضعف مؤسسات الدولة، حيث تُنظر إليها على أنها تعمل لمصلحة فئة معينة بدلًا من خدمة جميع المواطنين. أما تحديات تطبيق النموذج العلماني/الليبرالي فهي أكثر تعقيدًا. فالمقاومة الثقافية للمفاهيم التي تُعتبر “مستوردة” تشكل عائقًا كبيرًا. يرى قطاع واسع من المجتمع أن هذا النموذج يتصادم مع هويته الدينية، مما يضعف شرعية الدولة في عيون مواطنيها. كما أن صعوبة إدارة الحريات الفردية التي يقرها النموذج الليبرالي قد تسبب نزاعات اجتماعية في مجتمع يرى بعض الممارسات على أنها تعدٍ على المقدسات.
الفصل الخامس: مسارات مقترحة نحو المستقبل
في هذا الفصل، يقدم البحث رؤى مختلفة للمضي قدمًا في بناء دولة مستقرة في العراق. من هذه الرؤى، نموذج الدولة المدنية مع المرجعية الإسلامية، الذي يرى أن الدولة يمكن أن تكون مدنية في هيكلها، ولكنها تستلهم مبادئها الأخلاقية من الإسلام. وهناك أيضًا نموذج الديمقراطية التوافقية، الذي يقترح التوافق السياسي كحل لإنهاء الصراع الطائفي. وأخيرًا، يتم التأكيد على أهمية الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي لإعادة قراءة النصوص ومقاصد الشريعة بما يتناسب مع تحديات العصر، بما يتيح صياغة حلول متوافقة مع الهوية الوطنية والدينية.
خاتمة البحث
تُلخص هذه الدراسة النتائج الرئيسية التي توصلت إليها حول الفوارق بين العقد الاجتماعي الغربي والأُسس المدنية الإسلامية، وتؤكد على أن التحدي في العراق لا يكمن في الاختيار بين التخلي عن التراث أو رفض الحداثة، بل في كيفية إبداع نموذج جديد يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وتختتم الدراسة بتقديم توصيات عملية تؤكد على ضرورة بناء مؤسسات دولة قوية ومحايدة، والعمل على تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، وتفعيل دور الفكر المستنير كجسر للتواصل بين الموروث ومتطلبات المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار