خطوط الغاز ترسم الخرائط من جديد TANAP وسيناريوهات التحول الجيو طاقوي في الشرق الأوسط
علاء الطائي
في زمن لم تعد فيه الجغرافيا ترسم الحدود بل ترسمها أنابيب الطاقة ومسارات التجارة يبرز مشروع TANAP “خط الأنابيب العابر للأناضول” بوصفه أكثر من مجرد خط لنقل الغاز الأذري إلى أوروبا بل كمشروع جيواستراتيجي يعيد ترتيب التوازنات ويعيد تعريف النفوذ بين الشرق والغرب ويؤسس لشرق أوسط جديد تُدار حدوده من تحت الأرض لا عبر قاعات المؤتمرات.
TANAP:
من أنبوب إلى محور نفوذ
بدأ مشروع TANAP كخط يربط حقل شاه دنيز في أذربيجان أوروبا عبر تركيا وصولًا إلى اليونان وإيطاليا ضمن ما يُعرف بالممر الجنوبي للغاز لكن اليوم وبعد حرب أوكرانيا واحتدام الصراع على طرق الطاقة أصبح المشروع العمود الفقري استراتيجية أوسع ترعاها واشنطن والاتحاد الأوروبي لتحرير أوروبا من قبضة الغاز الروسي وتقويض طريق الحرير الصيني وتطويق المحور الإيراني–الروسي.
تركيا:
من معبر إلى مركز تسعير
تركيا بقيادة إردوغان لم تعد مجرد محطة عبور بل تسعى لتكون “مركزًا عالميًا لتجارة الغاز” ومصدرًا وتسعيره ومع توسع TANAP وخطط الربط مع أذربيجان وفتح الأبواب أمام غاز تل أبيب واحتمالات التمدد نحو شمال سوريا تتحول أنقرة إلى عقدة طاقوية عالمية يدور حولها الخليج وشرق المتوسط وآسيا الوسطى وفي ظل هذا المشهد تأخذ العلاقة التركية–الأذرية بعدًا أعمق من القومية واللغة لتصبح شراكة استراتيجية في إدارة ممرات الغاز وبناء خريطة جديدة للطاقة في الإقليم.
سوريا:
الغاز المؤجَّل والحضور المعطَّل
وراء الدمار السوري يقبع كنز هائل أكثر من 800 مليار متر مكعب من الغاز في السواحل السورية ومخزون شرقي غني في دير الزور والحسكة لكن هذا الغاز محظور من الاستغلال لا لعجز تقني بل لأن استثماره سيعيد رسم ميزان القوى في شرق المتوسط.
وجود القوات الأمريكية في شرق سوريا والحديث المتجدد عن مشاريع تزويد مناطق الشمال السوري بالغاز الأذري ليسا بعيدين عن هذا السياق فالهدف هو فصل الجغرافيا السورية و تحييدها عن مشروع “طريق الحرير” وتفتيت وحدتها الطاقوية.
العراق:
مخزون مأسور بين الرغبة والفيتو
يمتلك العراق ثالث أكبر احتياطي غاز في الشرق الأوسط لكن غازه لا يصدر لا بنية تحتية فاعلة ولا استقرار سياسي ولا قرار سيادي موحَّد من جهة تندفع حكومة إقليم كردستان للتعاون مع تركيا عبر أنابيب خورمور–جيهان ومن جهة أخرى تبقى بغداد مربوطة بشبكة من الضغوط الخارجية.
العراق هو “الكنز المحاصر” وورقة التوازن الكبرى التي تسعى واشنطن لضبطها كي لا تُغذّي طموحات الصين في طريق الحرير ولا تُفرج عن الطموح الإيراني في خط الغاز العابر نحو المتوسط.
الهند:
الذراع الأمريكية الجديدة
ربما يظن البعض أن الهند مجرد مستورد ضخم للطاقة لكنها اليوم تتحول إلى لاعب رئيسي ضمن المشروع الأمريكي لمنافسة الصين. مشروع IMEC “الممر الاقتصادي الهندي–الشرق أوسطي–الأوروبي” الذي أعلن عنه في قمة العشرين 2023 يسعى لربط الهند ب”الخليج تل أبيب” في أوروبا أي إنه يعبر من حيث كانت الصين تريد أن تمر.
الهند وفق هذا التصور قد تجد نفسها مستقبلاً جزءًا من معادلة TANAP أو شريكًا في استثمارات الغاز الممتد من الخليج وتركيا في لعبة معقّدة تُوظَّف فيها الطاقة كسلاح ناعم ضد طريق الحرير الصيني.
إيران وروسيا:
تراجع الجبهتين
مشروع TANAP لا يمر عبر إيران ولا يربطها بأوروبا بل يتجاوزها عمدًا إنه جزء من سياسة عزل إيران طاقويًا وحرمانها من ممر استراتيجي نحو المتوسط كما أن توسّع TANAP يعني سحب البساط من تحت غاز روسيا خاصة بعد تعطيل نورد ستريم هكذا تفقد موسكو وأيضًا طهران ثقلهما في سوق الطاقة الأوروبي في وقت تعيد فيه واشنطن رسم خطوط الغاز من بحر قزوين حتى إيطاليا مرورًا بأنقرة.
تل أبيب:
من الأمن إلى الطاقة
الكيان بدوره بدأ يدرك أن معارك الغاز قد تكون أقوى من حروب الحدود غاز حقل ليفياثان وطموح الربط مع تركيا أعادا تشكيل أولويات تل أبيب وبات حضور الكيان في معادلة TANAP وتوسعاته جزءًا من استراتيجية الأمن القومي للكيان في ظل التنافس مع غاز مصر وقبرص ولبنان ورفض ترك سوريا تتحول إلى منصة غاز منافسة.
الولايات المتحدة:
العقل المدبّر
كل هذه المشاريع – من TANAP إلى TAP ومن IMEC إلى تقطيع الطريق على طريق الحرير – تحمل بصمة أمريكية واضحة واشنطن تسعى اليوم ليس فقط لتأمين أوروبا من الغاز الروسي بل لبناء منظومة طاقة حليفة تربط بين الهند والخليج وتركيا والكيان وأوروبا أما سوريا والعراق وإيران فمكانها في هذه الخريطة مؤجل أو مرهون بالارتباط البنيوي لا الشراكة.
بالمحصلة:
الشرق الأوسط يُعاد رسمه… لا بالحرب بل بالغاز
نحن أمام لحظة نادرة من التحول الجيوسياسي لا تحددها المعارك ولا الاتفاقيات بل تحددها شبكات الغاز وأنابيبه وممراته وموانئه.
مشروع TANAP ليس خطًا تحت الأرض فحسب بل هو خط فاصل بين نظامين عالميين.. طريق الحرير الصيني والممر الاقتصادي الأمريكي.
-من يسيطر على خطوط الغاز يسيطر على اتجاه القرار في الشرق الأوسط القادم.
– ومن لا يملك موضعًا على خريطة الطاقة فليبحث عن مكانه في هوامش الهيمنة المقنّعة.