الرئيسيةالمقالات

دروس التاريخ القاسية: من يضحي لا يلدغ مرتين

دروس التاريخ القاسية: من يضحي لا يلدغ مرتين

بقلم/عدنان صگر الخليفه

تاريخ العراق مليء بالبطولات والتضحيات التي قُدمت على مذبح الحرية والاستقلال، لكنه للأسف يزخر أيضًا بمرارة سرقة الثمار وتغييب الفضل عن أصحابه الحقيقيين. إن ثورة العشرين المجيدة، التي تُعدّ حجر الزاوية في تاريخ العراق الحديث، لم تكن مجرد حادثة فردية، بل كانت انتفاضة شعبية عارمة أشعل فتيلها أبناء الجنوب والفرات الأوسط، الذين ضاقوا ذرعًا بظلم الاحتلال البريطاني، وقاتلوا لأسابيع طويلة بدوافع وطنية ودينية خالصة.
لقد كانت تلك الثورة تعبيرًا عن كرامة مجتمع بأكمله، لا عن إهانة شخصية. حادثة مقتل الكولونيل ليتشمان على يد الشيخ ضاري المحمود في أبو غريب، جاءت بعد أسابيع من اشتعال الثورة. كانت تلك الحادثة، وإن كانت جسيمة وساهمت في توسيع جبهات القتال نحو بغداد، مدفوعة في المقام الأول بدوافع شخصية تتعلق بالدفاع عن الشرف والكرامة والهروب من المساءلة البريطانية. ومع ذلك، طغت هذه الحادثة لاحقًا على السرد التاريخي، لتُنسب الثورة إلى من لم يشعل شرارتها الأساسية، ولتُختزل في رد فعل فردي، مما طمس الدور المحوري لمن قاتلوا وضحوا في البداية.
هذا النمط من “سرقة الثورات” لم يتوقف عند ثورة العشرين. فبعد احتلال عام 2003، تكررت نفس السيناريوهات المؤسفة؛ فمن ادعى المقاومة واحتكرها لنفسه، اتهم غيره بالخيانة والتخاذل، متجاهلاً أن مناطق أخرى قاتلت بشراسة أو اضطرت للمواجهة بعد تعرضها لإهانات لاحقة، بينما دخلت مناطقهم هم أحيانًا بمفاوضات مباشرة.
إن هذا التزييف المستمر للتاريخ، وهذا الاحتكار الزائف للتضحيات، قد علّم أبناء العراق درسًا قاسيًا. فمن يدعي اليوم أنه صانع الثورات ومقاوم للمحتلين، ويخضع في الوقت ذاته لظلم الأحزاب والفصائل الداخلية، عليه أن يُثبت صدق ادعائه. لن تُلدغ هذه الأمة من جحر واحد مرتين. فمن يريد التغيير الحقيقي، ومن يدعي القيادة، فليُظهر ذلك في الميدان وليقد المعارك والتغيير بنفسه. وحينها فقط، سيجد دعمًا وسندًا من كل من يطمح لعدالة لا تُسرق، وكرامة لا تُهان، وقيادة تستحق الاحترام والتضحية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار