القضاء العراقي: الجدار الأخير في اختبار الثقة والوطنية (1 يوليو 2025)
بقلم/عدنان صگر الخليفه
لطالما مثّلت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، كحصن أخير لحماية الدستور وحقوق المواطنين، السند الذي يعتمد عليه الشعب. لكن هذا الجدار يواجه اليوم امتحاناً مصيرياً. ففي منتصف عام 2025، شهدت المحكمة أزمة غير مسبوقة باستقالة تسعة من قضاتها، تلتها إحالة رئيسها القاضي جاسم محمد عبود العميري للتقاعد في 30 يونيو 2025. هذه الأحداث جاءت على خلفية ضغوط سياسية مكثفة مرتبطة بملف خور عبد الله، حيث كانت المحكمة قد أبطلت قانون تصديق اتفاقيته عام 2023.
لقد فُسِّرت استقالة القضاة كضغط لتغيير رئاسة المحكمة وتعديل مسار قضية خور عبد الله. وبالفعل، بعد تعيين القاضي منذر إبراهيم حسين رئيساً جديداً، عاد القضاة المستقيلون في خطوة فُهمت كتفاهم سياسي لإنهاء الأزمة. فإن كانت عودة القضاة بعد استبدال العميري هي فقط لتمرير الانتخابات ولعدم خلق فراغ دستوري، فهذا بحد ذاته يعني أنهم متماشون مع الأجندة التي فرضتها رئاستا الوزراء والجمهورية. هذه التغييرات تضع المحكمة الآن أمام اختبار حاسم لمصداقيتها واستقلاليتها، فقرارها المرتقب بشأن خور عبد الله هو المحك.
إذا أصرت المحكمة الحالية على قرارها لعام 2023 بإبطال قانون اتفاقية خور عبد الله، ورفضت العدول عنه، فسيؤكد ذلك أن القاضي العميري كان متمسكاً بحقوق العراق. كما سيعزز هذا استقلالية المحكمة ويثبت أنها لم تخضع لتفاهمات سياسية. وهنا تكمن نقطة بالغة الأهمية، وهي ما يراه العراقيون الحل الأمثل: إعادة هذا القرار للتصويت في مجلس النواب لا يُشكل أي إشكال قانوني. بل يعيد الحق للبرلمان لبيان موقفه الصريح أمام الشعب. حينها، سيتكشف للعراقيين بوضوح من هم النواب الذين يصرون على حماية سيادة العراق ووحدة أراضيه وحدوده المائية، ومن هم الذين قد يكشف موقفهم عن تفريط بهذه الحقوق، لتتبين مصداقية ادعاءاتهم. وفي هذا السيناريو، سيتأكد للعراقيين أن استقالات القضاة كانت لدواعي وطنية واستقلالية للقضاء.
أما إذا عدلت المحكمة عن قرارها لعام 2023 وقبلت اعتراض الرئاسات، فسيؤكد هذا أن التغييرات في المحكمة واستقالات القضاة كانت نتيجة لتفاهمات سياسية لتحقيق نتيجة قضائية محددة. سيتعزز الاعتقاد بأن العميري كان يرفض التراجع، وأن إزاحته كانت ضرورية للأطراف السياسية.
ويزداد هذا الاختبار حساسية بتوقيت صدور القرار؛ فتأجيل النظر في قضية خور عبد الله إلى ما بعد انتخابات 2025، ثم نقض حكم 2023 لاحقاً، سيُعد دليلاً واضحاً على توافقات سياسية تهدف لتجنب تداعيات انتخابية. هذا السلوك سيُرسخ قناعة العراقيين بخضوع المحكمة لأجندات سياسية، ويفوت عليهم فرصة فرز “الوطنيين الحقيقيين” قبل صناديق الاقتراع.
إن المحكمة الاتحادية هي السند الأخير للعراقيين في وجه الفساد. ما سيتخذ من قرارات في الأيام المقبلة، وتحديداً في قضية خور عبد الله وتوقيت صدورها، سيكون هو الذي يحدد مصداقية القضاء. لن يكون مجرد حكم قانوني، بل سيكون مؤشراً فاصلاً للعراقيين لتمييز “الخيط الأسود من الخيط الأبيض”، ويكشف من هو السياسي الذي يدعي الوطنية ويفرط بحقوق العراق، ومن هو الذي يتمسك بوطن كامل حدوده وسيادته. هذه القرارات ستثبت إن كان الجدار الأخير لا يزال يستند إليه العراقيون لحماية حقوقهم، أم أنه قد وُضع لحماية السياسيين وأجنداتهم.
زر الذهاب إلى الأعلى