أخر الأخبارالرئيسية

الحلقة الثالثة الإقليم الشيعي بين تجربة التأريخ ومأزق التسمية تفكيك الرعب الرمزي وصناعة الهوية السياسية

الحلقة الثالثة
الإقليم الشيعي بين تجربة التأريخ ومأزق التسمية
تفكيك الرعب الرمزي وصناعة الهوية السياسية

في كل صراع فكري تمرّ به المجتمعات تتصاعد الرموز إلى مستوى الأوهام وتتحول الأسماء إلى جبهات حرب وكأنَّ اللفظ بذاته يحمل نبوءة خراب أو وعدًا بالخلاص ولعلّ واحدة من أكثر المفارقات الفكرية في الجدل العراقي الراهن حول الإقليم الشيعي هي أن التسمية ذاتها أصبحت قضية قبل أن يصبح المشروع موضوعًا!
بات البعض يتعامل مع المصطلح وكأنه قنبلة لغوية يكفي نطقه لاستدعاء ترسانة الاتهامات “تفتيت، خيانة، خروج عن الإسلام، انهيار المشروع الرسالي” وغير ذلك من القوالب الجاهزة.
لكن… أليس من حقنا اليوم أن نتوقف قليلًا ونسأل:
هل حقًا الاسم هو المشكلة؟ أم أن هناك خوفًا أعمق من مراجعة الأنموذج السياسي العراقي برمته؟
أولًا:
حين تكون التسمية جزءًا من الجغرافيا الإسلامية قراءة في التأريخ السياسي الشيعي
إذا عدنا إلى صفحات التأريخ الإسلامي، لا سيما في مراحله المفصلية، لوجدنا أن “تسمية الكيانات بهويتها المذهبية” لم تكن أبدًا موضع تجريم فقهي أو تكفير سياسي.
لنستعرض بعض الشواهد:
الدولة الفاطمية (297هـ – 567هـ / 909م – 1171م):
نشأت في شمال أفريقيا ثم امتدت إلى مصر وبلاد الشام وحملت اسمها بوضوح بوصفها دولة تنتمي فكريًّا وولائيًّا لأهل البيت عليهم السلام، ومع ذلك لم يصدر عن المدارس الفقهية الكبرى السنية أو الشيعية أي تكفير أو تحريم لهذه التسمية، بل كانت مركزًا للعلم والثقافة والفكر.
إمارة الأدارسة في المغرب (172هـ – 364هـ / 788م – 974م):
كيان سياسي شيعي زيدي حمل في اسمه انتسابًا صريحًا لذرية الإمام الحسن بن علي عليه السلام ولم يكن مجرد كيان إداري بل أطلق تجربة سياسية–دعوية في محيط أمازيغي حديث العهد بالإسلام،
الدولة العلوية في الشام واليمن:
سواء في إمارة بني حمّاد في شمال أفريقيا أو الدولة الزيدية في صعدة، كلها نماذج لكيانات شيعية حملت اسمها دون مواربة.
الدولة البويهية (320هـ – 454هـ / 932م – 1062م):
رغم أنهم لم يعلنوا تشيّعهم كمذهب رسمي إلا أن ميولهم العلوية كانت واضحة وسياساتهم في بغداد آنذاك شكلت بيئة سياسية داعمة للمذهب الشيعي الاثني عشري .
الخلاصة التأريخية:
لم يكن العنوان المذهبي في التسمية يومًا عيبًا… بل كان تعبيرًا عن هوية جماعية وضرورةً سياسية وظرفًا اجتماعيًّا محدَّدًا.
ثانيًا:
جدلية الاسم بين الوظيفة السياسية والحمولة النفسية
في علم الاجتماع السياسي يُصنَّف الرهاب من الأسماء ضمن ما يسمى “Fear of Symbolic Representation” أي الخوف من التمثيل الرمزي.
المشكلة ليست في الاسم… بل في “ما يظنه الناس أن الاسم يمثله”
عندما نقول (الإقليم الشيعي) لا نقصد دولة طائفية ولا انفصالًا ولا عداءً لبقية المكونات الكريمة
بل نعني:
إطارًا إداريًّا منبثقًا من الدستور.
آلية لحماية الحقوق التنموية.
مظلة تنظيم الإدارة المحلية.
الاسم هنا مجرد وعاء إداري… لا حكمٌ قيميٌّ على نوايا الناس.
الرد الفقهي الجدلي هنا:
هل هناك نص فقهي شيعي يحرم التسمية؟
هل منع أحد العلماء في تأريخنا أن يُسمى كيان إداري بهويته الدينية؟
الإجابة بكل وضوح لا.
ثالثًا:
هل التسمية استثناء شيعي أم ظاهرة سياسية عامة؟
الأكثر غرابة في المشهد العراقي أن النخب التي تعترض على اسم “الإقليم الشيعي” ذاتها لا تعترض على أسماء مثل:
إقليم كردستان،
المنطقة الغربية،
إقليم البصرة، الذي عُرض سابقًا،
فلماذا تصبح الجغرافيا السياسية مشروعة للآخرين.. ومحظورة على الشيعة؟
هذا ما يسميه علماء العلوم السياسية بـ”Double Standards in Identity Politics” معايير مزدوجة تُطبّق في سياق سياسات الهوية.
رابعًا:
مأزق التسمية… هروب من مواجهة الفشل السياسي
لعل أخطر ما نرصده اليوم هو أن الهجوم على “التسمية” ما هو إلا ستار نفسي للهروب من مواجهة الأسئلة الكبرى:
لماذا فشلت الدولة العراقية في تحقيق التوازن التنموي بين الشمال والجنوب؟
لماذا يُعامل الشيعة في محافظاتهم كضيوف في وطنهم؟
لماذا لا يوجد أي مشروع اقتصادي استراتيجي في ذي قار أو ميسان، بينما تتكدس المشاريع في مناطق أخرى؟
مشكلة البعض أنهم يخافون من فتح ملف الإخفاق المركزي… فيكتفون بمحاكمة الاسم بدلًا من محاكمة المنظومة.
خامسًا:
فلسفة التسمية… من الذاتية إلى الشرعية السياسية
وفقًا لنظريات “الهويات السياسية المركبة” فإن التسمية ليست فعلًا انعزاليًّا… بل “إعلان هوية تنموية–حقوقية” في مواجهة تهميش ممنهج.
وعليه، فإن اختيار مسمى “الإقليم الشيعي” هو خطوة رمزية باتجاه الاعتراف بالأزمة… وبداية صياغة الحل.
التسمية هنا لا تعني إعلان حرب… بل إعلان بداية مرحلة جديدة من إدارة الذات ضمن إطار الدولة العراقية.
سادسًا:
من تجربة التأريخ إلى متطلبات الحاضر،
إذا قارنّا بين أنموذجات الحكم الشيعي في التأريخ وبين مطلب “الإقليم” اليوم نكتشف أن:
الدولة الفاطمية تأسست في ظل صراع مذهبي أشدّ قسوة… ومع ذلك… لم يُنكرها أحد بوصفها “خيانة للإسلام”
إمارة الأدارسة نشأت لتلبية حاجة مجتمعية في بيئة أمازيغية حديثة العهد بالإسلام.
الحكم الزيدي في اليمن حافظ على توازن مذهبي في بيئة متعددة الطوائف.
في كل هذه الحالات:
كان الحكم المحلي وسيلة لصيانة الهوية وتنظيم المجتمع وضمان الحد الأدنى من الكرامة السياسية.
السؤال الآن:
لماذا يُمنع الشيعة العراقيون من حق تأريخي مارسته طوائف أخرى دون أن تتعرض للتخوين؟
سابعًا:
الجغرافيا الشيعية… من التبعثر إلى التنظيم
واقع الجغرافيا الشيعية في العراق اليوم هو واقع “الانتشار غير المنظم”…
ما بين محافظات الجنوب وبعض مناطق الوسط وحتى بغداد.
هذا الانتشار صار عبئًا سياسيًّا لا يسمح بتحقيق وزن تفاوضي أو تنموي حقيقي في بغداد.
الحل الاستراتيجي الواقعي:
تحويل الجغرافيا الشيعية من “هامش متفرق” إلى “إقليم منظم” دون المساس بحقوق الأقليات الكريمة الأخرى وضمن الضوابط الدستورية.
ثامنًا:
نقد الذات الشيعية… قبل نقد التسمية
إن المعضلة ليست في الاسم… بل في “التردد الشيعي الداخلي” في اتخاذ القرار.
طوال عقدين كان الشيعة في العراق يخافون من أن يُتَّهموا بالطائفية… فاختاروا الصمت.
لكن الصمت لم يجلب لهم التنمية… بل زاد من عزلة محافظاتهم وفقر مجتمعاتهم.
اليوم… المطلوب هو:
نقد الذات بشجاعة
صياغة استراتيجية نهوض محلية
إعادة تعريف الهوية الشيعية بوصفها هوية تنموية–وطنية
بالختام:
هل نخشى الاسم… أم نخشى التغيير؟
السؤال الفلسفي الأخير الذي نختم به هذه الحلقة:
هل نخشى من “الإقليم الشيعي” لأنه يحمل هذا الاسم؟
أم لأننا نخشى من مواجهة الفشل والاعتراف بالحاجة إلى التغيير؟
إن كل تقدم في التاريخ يبدأ بسؤال محرج…
وكل مشروع إصلاحي يبدأ بكسر الخوف من الاسم…
فلتكن البداية اليوم… لا من تغيير الاسم… بل من تغيير نمط التفكير.

علاء الطائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار