الملف النووي الإيراني: بين “جرس الإنذار” الدولي وواقع التوازن الجيوسياسي المتغير
إعداد/عدنان صگر الخليفه
يشهد الملف النووي الإيراني تطورات متسارعة تُعيد تعريف مشهد الأمن الإقليمي والدولي. تقرير حديث صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يستند إلى معلومات دقيقة وفحوصات فنية مصدرها جهاز الموساد الإسرائيلي، يكشف عن قيام النظام الإيراني بسلسلة من التجارب “الانفجارية الداخلية” (Implosion Tests) المرتبطة مباشرة بتكنولوجيا تطوير الرؤوس النووية الانشطارية. هذه الأنشطة، التي جرت بعيداً عن أعين الرقابة الدولية، لا تُشكل خرقاً فاضحاً لبنود اتفاق الضمانات فحسب، بل تُشير إلى أن برنامج إيران النووي قد تجاوز مراحل التخصيب نحو مراحل متقدمة من تصميم السلاح النووي، وهو ما يُنذر بانهيار كامل لمنظومة عدم الانتشار في المنطقة.
إن استخدام تقنية الانفجار الداخلي هو المؤشر الأخطر على النية الحقيقية لتصنيع سلاح نووي، إذ تُستخدم حصرياً في صناعة القنابل النووية من نوع البلوتونيوم المضغوط أو اليورانيوم عالي التخصيب. هذا التطور يعني أن إيران قد وصلت، أو هي على وشك الوصول، إلى القدرة على تصنيع رأس نووي متكامل. الوقت المتاح للرد يتقلص، وكل تسويف سيمنح إيران هامشاً ثميناً لاستكمال مراحل بناء الرأس النووي وربما اختباره سراً.
هل الخيار العسكري ممكن وحاسم؟
رغم خطورة الموقف، تُواجه احتمالية توجيه ضربة عسكرية حاسمة ضد البرنامج النووي الإيراني تحديات جمة:
* التحصين والبرنامج الموازي: تمتلك إيران منشآت نووية محصنة بعمق تحت الأرض، مثل مفاعل فوردو الذي يُعتقد أنه يقع على عمق يزيد عن 100 متر. هذا يجعل تدميره بالكامل صعبًا للغاية باستخدام الأسلحة التقليدية المتوفرة، حتى لأقوى الجيوش. إضافة إلى ذلك، تشير تقارير خبراء الطاقة الذرية إلى وجود برنامج نووي موازٍ أو سري، مما يعني أن تدمير المواقع المعلنة لن يُنهي طموح إيران بشكل دائم، بل قد يدفعها للاستمرار في الخفاء.
* القيود العسكرية الأمريكية والإسرائيلية: إسرائيل لا تمتلك القنابل القادرة على اختراق هذه الأعماق بفعالية، وقدرتها على شن غارات بعيدة المدى ومكثفة محدودة. أما الولايات المتحدة، ورغم امتلاكها لقنابل مثل GBU-57 Massive Ordnance Penetrator (MOP)، إلا أنها تُظهر عدم رغبة قوية في الانخراط في حرب شاملة مع إيران. تكلفة مثل هذه الحرب ستكون باهظة بشريًا واقتصاديًا، وستُعرض حلفاء أمريكا في المنطقة لهجمات انتقامية إيرانية مكثفة قد تُزعزع الاستقرار الإقليمي بأكمله، وتُهدد طرق إمداد النفط العالمية عبر مضيق هرمز.
* التهديد كورقة ضغط: في هذا السياق، قد يكون التهديد بضربة عسكرية أمريكية شاملة هو في الأساس ورقة ضغط سياسية أكثر منه خيارًا عمليًا وشيكًا، نظراً لتكلفته الوجودية المحتملة على الولايات المتحدة وحلفائها.
مجلس الأمن: ملاذ أم مهلة لإيران؟
تلجأ إسرائيل، عبر هذه التقارير، إلى مجلس الأمن الدولي. هذه الخطوة ليست بالضرورة دليلاً على ضعف، بل هي تكتيك استراتيجي يهدف إلى:
* تدويل التهديد: تحويل الملف من “قلق إسرائيلي” إلى “تهديد عالمي” يتطلب استجابة جماعية.
* بناء الشرعية: حشد الدعم الدولي لفرض عقوبات أكثر صرامة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
* إحالة المسؤولية: وضع الكرة في ملعب المجتمع الدولي ليتحمل مسؤوليته.
لكن، هذا اللجوء إلى مجلس الأمن يثير مخاوف جدية بشأن عامل الوقت. عمليات مجلس الأمن بطيئة ومعقدة، وتخضع لحق النقض (الفيتو) من قبل دول مثل روسيا والصين التي قد تكون لها مصالح في عدم الضغط الشديد على إيران. هذا التأخير قد يمنح إيران بالفعل النافذة الزمنية الكافية لفرض أمر واقع: امتلاك السلاح النووي.
تحولات جيوسياسية تُعقد المشهد
يُضاف إلى هذا التعقيد، التحولات الكبرى في النظام العالمي، حيث:
* صعود الصين: برزت الصين كقوة عالمية عظمى اقتصاديًا، تكنولوجيًا، وعسكريًا. هي حليف استراتيجي لإيران وروسيا، وتشاركهم الرغبة في تحدي الهيمنة الغربية. إذا امتلكت إيران السلاح النووي، فقد يُنظر إلى ذلك كـ”انتصار” استراتيجي للصين، يعزز محورها المناهض للغرب ويزيد من جاذبيتها للتحالفات مع دول أخرى.
* تراجع النفوذ الأمريكي: التدخلات العسكرية الأمريكية السابقة أدت إلى استنزاف مواردها، وتُركز الولايات المتحدة حاليًا على التنافس مع الصين وروسيا. إضافة إلى ذلك، فإن تهديدات رئيس الولايات المتحدة الحالي والفائز بانتخابات عام 2024 دونالد ترامب المتكررة للدول الأوروبية بتركها وحدها في مواجهة روسيا تُقوض الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية وتُضعف وحدة الجبهة الغربية.
* روسيا والتهديد لأوروبا: ترى روسيا في توسع الناتو (خاصة ضم أوكرانيا) تهديدًا وجوديًا. هذا يُبقي التوتر قائمًا مع أوروبا، مما يُجبر الدول الأوروبية على إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية.
أوروبا: بين تهديد الطاقة والحياد المحتمل
يُصبح أمن الطاقة الأوروبي عاملاً حاسماً. بعد تقليص واردات الغاز الروسي، تعتمد أوروبا بشكل كبير على الغاز الطبيعي المسال من دول الخليج. أي حرب شاملة في الشرق الأوسط ستُهدد ممرات الملاحة الحيوية، مما سيقطع إمدادات الغاز والنفط عن أوروبا، ويُدخل القارة في كارثة اقتصادية. هذا الخطر الوجودي يُعزز من حذر أوروبا الشديد تجاه أي تصعيد عسكري، ويدفعها نحو تفضيل الحلول الدبلوماسية. بل قد يدفعها التفكير في الحياد في الملف الإيراني، أملاً في تقليل المخاطر من روسيا، حتى لو كان ذلك على حساب علاقتها مع الولايات المتحدة.
خاتمة: واقع نووي محتمل
بناءً على التقدم الفني الإيراني، وبطء الآليات الدولية، والتعقيدات الجيوسياسية الراهنة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن إيران قد تتمكن من فرض واقع امتلاك السلاح النووي المتكامل على المجتمع الدولي قبل أن تُسفر المفاوضات أو إجراءات مجلس الأمن عن نتيجة حاسمة. هذا سيغير جذريًا موازين القوى في المنطقة، ويدفع باتجاه سباق تسلح إقليمي، ويُضعف منظومة عدم الانتشار العالمية.
السؤال الملح حينها لن يكون “كيف نمنع إيران من امتلاك السلاح النووي؟”، بل “كيف سيتعامل العالم مع إيران نووية؟”، وهل ستُركز الاستجابة على الاحتواء والردع بدلاً من المنع؟ إن المشهد الجيوسياسي يتجه نحو حقبة جديدة من التحديات، حيث ستُشكل هذه التطورات ملامح الأيام القادمة.
زر الذهاب إلى الأعلى